فخ الكتابة

فخ الكتابة

بقلم :: محمد الترهوني 

الكاتب الجيد لا يعترف بالعقل ، يعترف بالقلب والأهواء ، العقل يجعل الكاتب مرغماً على الجري في ممر مظلم منتظرا إشراق الأفكار ذات القيمة والعميقة والتي تقول أن كل شيء خير ، وهي نفسها الأفكار التي تعتبرنا جميعا مجرمين ولنا نفوس تعارض البراءة بالذنب ، وهذا هو التبرير الوحيد لوجود كتابات تحاول تنظيم سلوكنا وتعليمنا الطريقة الوحيدة – الإذلالية طبعا – في عدم الاهتمام بما يقوله الأدب ؛ لأن الأدب لا يجد مضمونه الإيجابي إلا في تحديه ورفضه لنغمة الخير غير الممزوجة بالشر ، الكاتب الجيد متهم دائما بتمجيد ما هو مشين ، ومتهم أيضا بأنه يستبدل الحياة بكتب تتحدث عن الحياة ، وكأننا مطالبون بتكريم هذه المأساة التي تسمى الحياة بالسكوت عنها وعدم فضحها ، نعم القلب والأهواء كانتا وراء وجود صفحة إلى جانب أخرى لتنجز في النهاية كتاباً ، ما هو مهم في تاريخ البشرية موجود على أوراق ، وبعض هذه الأوراق لم تكن في لحظة كتابتها سوى خربشة ليس فيها من دقة العلم شيء ، العلم دقيق لأنه لا يتحدث عنا لهذا يسحق في طريقه كل رغباتنا ولا يحقق سوى ما يرغب فيه هو ، الكاتب الذي يبحث عن الدقة عن المنطق عن الأخلاقي هو كاتب محروم من قلمه ، محروم من التقدم على الصفحة بشكل عشوائي وغير محسوب ، رأسمال الكاتب بسيط بشكل ساخر وهو قدرته على أن يثير الفضول بشكل لا يخلو من النشوة ، وهذا ربما يزعج اللسانيين المُصرّين على الانطواء على الذات ، فبالنسبة لهم كل خروج عن المألوف هو لسان مضاد يجب قطعه ، وربما أيضا يزعج أولئك المهتمين بإنقاذ الآخرين من الضياع من خلال كتاباتهم ، لأن الحقيقة الوحيدة موجودة فيها وهي في الحقيقة ليست سوى كتابات تنام بعد قراءتها بشكل سيئ أو على الأقل تشعر برغبة في قتل صاحبها وأنت تبتسم ، هؤلاء لا يفهمون أن الكتابة الجيدة هي تلك التي ترفض فهمها لكي لا تفسد متعة الاستمرار في النظر إليها ، النص الجيد يجب أن يحاول أن يرغمنا على فعل شيء بل يتيح فقط فرصة لما نفعله فعلا كي يدافع عن نفسه ، الكاتب الحذر كاتب يخاف المحاكمة ويدخل بسبب خوفه بعد أوراقه ولا يدخل معها أبدا ، لأنه جبان ويخاف سماع وقع أقدام القضاة ، مثل هذا الكاتب تموت الكلمات بين شفتيه وتدفن وسط كومة من تبن المخاوف ، يكفي الكاتب أن يشعر بأنه بمجرد رفَع يده سيمسك مقبض الباب المؤدي إلى الحياة بكل عريها وأن يمتلك الشجاعة لفتح هذا الباب وليس مجرد الوقوف أمامه مثل شحاذ ، يلاحظ البعض أني أجعل من الحب مكاناً أنغرس فيه و ألح كثيرا لكي نتوقف جميعا فيه ، و لن تكون مجازفة مني و مجرد ادعاء فارغ إذا قلت أني أحصيت كل الكلمات التي يمكن أن تقال عن الحب ، لكني أحب الوقوف عند جغرافيته المهيبة و أجدها الأشد إدهاشا وإمتاعا وأهمية من جغرافية الموضوعات الأخرى ، أقول جغرافيته لأني لا أحب التجريد إذا تعلق الأمر بالكلام عن الحب ، التجريد هنا يشبه الحديث عن غرفة نوم لا سرير فيها ، من وجهة نظري يقاس الكائن انطلاقا من علاقته بالآخر ، كأب ، أم ، أخ ، صديق ، جار ، زميل …… إلخ ، هذه العلاقات جميعا لا تعرف الحياد بالرغم من أن الحب لا يحقق نفسه فيها عن كثب لأن سبب الحب معروف ، هذه العلاقات يمكن الحديث عنها كمستويات اشتقاقية لكلمة حب ، الحب المتعلق بالمرأة كآخر هو جهنم اللغة لأنه يحقق نفسه فيها ، كل العشاق كائنات لا تتكلم اللغة التي تعلمون الكلام بها ، الحب يتكلم بلغة القلب والأهواء وهي نفسها لغة الشارع ، لغة الغباء والذكاء ، لغة الحزن والفرح ، لغة ممزوجة بعدم الاكتراث وبعيدة عن القيمة والعمق وعن حدود اللغة الفاخرة التي لا تهتم بما يجري فعلا في الحياة اليومية ، نحن غرباء في هذه الحياة ، في داخلنا حنين لا يقهر إلى اتصال لا تلعثم فيه ، إلى جرأة على دمج تفاصيل ظلنا مع ما يهرب منا من صور ، لا شيء غير الحب و كتابة كتاب يجعل الحياة تبدأ .الانتحار هو تصرف غايته الإساءة للموت نفسه ، الكتابة هي تصرف غايتها الإساءة للنسيان نفسه ، والحب هو تصرف غايته تفتيت أنانية الحياة وأنانية الكتابة نفسها ، مهارة الربط بين الموت ، الكتابة ، الحب ، هي مهارة ليست من تدبيري ، بل هي مهارة بدائية تفهم من خلالها كل شيء عن قلبك ، وبعض الأشياء عما في قلوب الآخرين ، وعندما تتحول هذه المهارة إلى كتابة تصبح شيئاً عنيفاً ، كل احترام لقناعاتنا ، كل احترام لحقيقة مشاعرنا ومخاوفنا سيكون فظاً ومفرطاً في خشونته ، أحب تلك اللحظة التي أشعر فيها أن اللغة جبانة وتتراجع معلنة توبتها ، في هذه الحالة تتقدم الحروف المحظورة و تتكلم بسهولة شديدة عن الرغبات المكبوتة ، عن المشاعر الملغية ، عما يخفيه الجميع في داخلهم طوال الوقت ، يجب أن تكون الحروف كاضطراب غير مفهوم على سطح الورقة ، اضطراب يعطي كل قاريء اسمه وشكله الذي يبحث عنه ، لست أنا من يقرر إذا ما كانت الحروف في نصوصي تنحاز للحب أو للكراهية ، لكني أنا من يقرر أن يكتب عن خصلة الشعر التي تنزلق بحنان كلما نظرتِ إلى أسفل ، أنا من يقرر أن يكتب عن الحركة العفوية لشفتيكِ في نهاية القبلة ، أنا من يقرر الكتابة عن أن لا شيء في العالم يتغير إلا إذا سمعت صوت أصابعكِ تقرع الباب ، إذا لم يصدر عن الحب صوت أسمعه وأنا جالس في ظل ذراعكِ تموت الكلمات وتدفن في رمال بيضاء ، نعم ستكون هناك على سطور الصفحة لكنها تفتقد لضجة التواصل الحميمة ، ولا تساعد أبدا على انتقال الجسد من مكان لمكان آخر بعيدا دون حتى الاهتمام بالتغير الطفيف الذي يحدث في اللحظات الحرجة ، الكتابة تكون أجمل إذا كانت متشكلة داخل مجالها هي ، حضورها يجعل الحديث عن نخب السلطة ، عن مجانين الفلسفة ، عن مجرمي المال ، عن الأحداث المريعة والمباغتة التي تسحق البشرية ببرودة دم غريبة ، عندما تكون هي تحت الحروف حتى الحديث عن المعارك الحربية يتحول إلى حديث عن رقصة باليه حزينة لكن لا تخلو من بطولة ، الانفتاح على عالم الأهواء يخرج الكتابة من البراءة المفتعلة ، و يجعل الكتابة خطراً يجب الحذر منه ، بعيون الحب تتمرد الكتابة على الرهافة المفروضة عليها ، ليست الكتابة شاهداً على أحد ولا على شيء ، الكتابة فخ للكلام عن كل شيء كأنه غير معروف تماما ، الكتابة من خلال تصورنا لمعنى الحب تشبه الكلام عن الغيلان التي كنا نخاف منها ونحن أطفال وكيف أصبحنا نحن هذه الغيلان نفسها مع تعديل بسيط وهو أنها غيلان تتعذب وليست مرعبة بالقدر الكافي .

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :