عبدالرحمن جماعة
لم يكن فرعون مجرد حاكم بل كان أستاذاً في مجاله، فناناً في تحريك الجموع وقيادتها، مبدعاً في تأليب الرأي العام وتقليبه حسب أهوائه ورغباته، وإذا تتبعت وراقبت ما يفعله الطغاة على مرِّ العصور فستعلم أنه أستاذهم الأول، وأنهم لا يزالون يتبعون منهجه، ولعل هذه الآية تثبت لك مقدار الموهبة التي يتمتع بها الفرعون: قال الله عز وجل: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] … ولنأخذ ما قاله بالكلمة: (ذَرُونِي): لم تكن الجموع تُمسكه حتى تذره، وإنما يريد من الجموع أن تقرر ما أراده، في الظاهر أن الجموع هي التي قررت، وفي الحقيقة هو الذي قرر، هو لا يطلب الإذن بقدر ما يعطي الإذن للجموع بأن تُصدر الحكم الذي أراده. ولكن.. إذا كان فرعون لا يُقيم وزناً للجموع؛ فلماذا يطلب الإذن، أي لماذا لم يُصدر حكمه على موسى عليه السلام دون الرجوع إلى الجموع، وهل إذا فعل ذلك سيحاسبه أحد؟!
هنا يظهر مدى ذكاء الفرعون وعبقريته، فهو يعلم أن موسى عليه السلام صاحب دعوة، وعندما تقتل صاحب الدعوة فإنك لا تضمن موت دعوته، فالخطر على فرعون وملكه ليس موسى عليه السلام كشخص، فالأنبياء ليسوا معارضين سياسيين يمكن أن تصل معهم إلى تسوية تُرضي الطرفين أو تقتسم معهم المناصب، أو ينتهي أمرهم بإعدامهم، بل هم أصحاب دعوة ورسالة لا تموت بمجرد موتهم، وهذه الدعوة والرسالة هي مكمن الخطر على الفرعون وملكه، وإذا كانت الأرض التي ستنبت فيها هذه الدعوة هي الجموع فإنه من غير المجدي أن يتم قتل موسى عليه السلام بمعزل عن هذه الجموع، وإذا ما تم ذلك وقامت الجموع بقتل موسى أو إصدار الحكم عليه فإنه من غير المعقول أن تتقبل دعوة من قتلته أو تتبنى رسالته بعد موته! (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ): السيناريو الذي تخيله الفرعون أنه سيتمكن من قتل موسى عليه السلام، ولكي يتم إبطال دعوة موسى بعد موته فلا بد من إعلان هذا التحدي، حتى إذا ما تمكن من قتله أيقن الشعب أن دعوة موسى باطلة، إذ لو كان له إله كما قال فلماذا لم يقم هذا الإله بحمايته ومنع الفرعون من قتله، وبذلك يتأكد الفرعون بأنه قضى على دعوة موسى بشكل تام وحاسم!
(إِنِّي أَخَافُ): وهنا قد يظن البعض أن الفرعون يعطي مبررات لقتل موسى، لكن ما أراده الفرعون غير ذلك، بل هو يريد أن يدفع الجموع للإسراع في إصدار الحكم لكي يقطع أي طريق للاستئناف أو التأجيل أو التأخير الذي قد يستثمره موسى لصالحه، لأن أي دعوة إذا لم تُقتل في مهدها فإنه ستنمو وسيصعب أو يستحيل اقتلاعها فيما بعد، فإذا ما قامت التربة برفض النبتة فإنه لن تُجدي أي أسمدة أو سقاية لإحيائها وإنباتها!
وهنا يستعمل الفرعون أقوى سلاح لقيادة الجماهير، إلا وهو سلاح الخوف فالشعوب دائماً وعلى مرِّ العصور وإلى يومنا هذا تُقاد بالخوف، وهنا يظهر فنُّ الفرعون في تحريك الجموع إذ أنه لم يقل: خافوا أو إنني أخوفكم أو أن هذا الأمر مخيف، بل نسب الخوف إلى نفسه (إِنِّي أَخَافُ) فإذا كان الملك يخاف شيئاً فلا بد أن هذا الأمر مرعب بدرجة كبيرة، وإذا كان الملك يخشى أمراً فإنه أجدر بالعامة أن تخشاه! ولكن.. مم أخافهم الفرعون؟! إن أكثر ما يخشاه أي تجمع بشري هو أمران: إفساد الدين وإفساد الدنيا، ولذلك خوفهم منهما معاً، ففي الآية قراءتان.. الأولى: (أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، والثانية: (وأَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، وسواء على قراءة التخيير (أو) أو قراءة الجمع (و) فإن أي مفسدة منهما هي مفسدة مدمرة مهلكة!.
ظاهرياً ترك الفرعون لأتباعه حرية التعبير عن الرأي؛ فإما أن يوافقوا على قتل موسى عليه السلام، وإما أن يرفضوا، لكن الحقيقة أن خيار الرفض مستحيل، وذلك كأن يُخيّرك شخص ما بين طريقين أحدهما مفتوح والآخر مغلق أو بين أمرين أحدهما متاح والآخر مستحيل، فهل يعقل أن يتجرأ أحدهم ويختار أكبر مفسدتين يُمكن أن تقعا على أي أمة؟!
إن حيلة فرعون هذه هي من أقوى الحيل، وإن خطته هذه هي خطة محكمة لا يُمكن الرد عليها، ولا يُمكن لأي بشر أن يقف في وجهها، ولذلك لم يجد موسى عليه السلام إلا أن يستجير بالله ويعوذ به: (وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍۢ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ) [غافر: 27].
وبذلك يكون موسى قد قبل التحدي في قول فرعون: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، وفي ذات الوقت لجأ إلى القوي العزيز!.
إن حيل فرعون ليست قديمة، بل هي ما عمل به جميع الطغاة على مر العصور، وإذا قرأت كتاب (سيكولوجية الجماهير) لغوستاف لوبون، وكتاب (الأمير) لميكافيللي فستعرف أن الفرعون هو أستاذ الطغاة الأول، ولا يزال تلاميذه يتحكمون في مصائر الناس ويتلاعبون بعقولهم إلى يومنا هذا!. والله المستعان.