فزان لحظة الاستقلال

فزان لحظة الاستقلال

 مساء السبت 30 . 9 . 2017 .. وبمقر قاعة ” منتدى الوحدة الوطنية ” .. بطرابلس .. عقدت ندوة ضمت لفيف من النخب المهتمة بالشأن العام ، تلاها مناقشات حوارية ، تحت عنون ” فزان لحظة الاستقلال ” .. قدم للندوة الدكتور عبدالرحيم الكيب ( رئيس الوزراء الاسبق ) .. مفضيا الى اهمية تناول واقع الجنوب الليبي وفزان في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها الوطن ، والى الوحدة الوطنية كمبدأ اساس ، بعيدا عن الانحياز لأية ايدولوجية او توجه سياسي معين .

تناولت الندوة ثلاثة محاور .. المحور الاول .. حول مختصر تاريخ فزان .. وكان موضوع حديث الدكتور الطاهر عريفة من جامعة سبها .. المحور الثاني : الجمعية الوطنية بفزان ، وكان موضوع حديث الاستاذ ابراهيم ابوعزوم ، وله كتاب يحمل العنوان ذاته .. المحور الثالث : زعماء الحركة الوطنية بفزان .. موضوع حديث الدكتور عبدالقادر الفيتوري من جامعة سبها.. جاء فيه :

الحديث عن رجالات فزان لحظة الاستقلال .. يستدعي ذكر كل من ساهم في انجاز تلك اللحظة التاريخية .. لكنها لحظة اتسمت بالعمل السري ، اضافة الى ندرة التوثيق .. ومن ثم .. هناك اخرون ممن لم تصلنا اخبارهم وأدوارهم .. وحاجة لجهود اكبر لتقصي ما لا يزال متواريا في جعبة الرواية الشفهية .. وما حوى الارشيف الفرنسي الذي لا يزال مغلقا .

لا ضير – على سبيل المثال لا الحصر .. نذكر .. ( الشيخ عبد الرحمن البركولي ودوره كرئيس للجمعية الوطنية السرية بفزان ) .. ( نصر بن سالم بن نصر : تقلد منصب متصرف وادي الشاطئ  .. ثم ناظرا للزراعة بفزان ، ثم عضو فزان الدائم بمجلس الشيوخ ) .. ( عبد القادر بن مسعود الفجيجي الشهير بموقعة قارة قاهره ) .. ( احمد سيف النصر .. السنوسي توجها .. زعيم القوة الليبية المتحالفة مع القوى الفرنسية لطرد الفاشست من فزان .. عرض عليه الفرنسيون مغريات كثيرة .. باى فزان على نمط باى تونس . وأصدروا طابع بريد يحمل صورته .. ولم ينحن ) .. ( الطاهر القذافى ابريدح .. مقارحة غدوه ، واحد المهاجرين وقد اصبح لاحقا عضوا بلجنة الستين – الجمعية الوطنية التأسيسية –  ثم ناظرا للصحة فى ولاية فزان ، لحظة الاقتحام كان رفيقا لسيف النصر في ذات العربة .. ( علي بن غنايم .. وقد تم اعتقاله بتهمة مناهضة الوجود الفرنسي .. من قرية تامزاوه .. وادي الشاطئ .. لجأ الى طرابلس بعدما افرج .. ترأس ممثلي الجمعية الذين قابلوا وفد الأمم المتحدة برئاسة ” أدريان بلت ”  .. اطلعوه على الأوضاع المأساوية التي يعانيها الإقليم جراء التسلط الفرنسي .. الإنتهاكات الأجرامية بحق المدنيين .. من اعتقالات واعدامات .. وله مع الأحزاب الوطنية في طرابلس وبرقة دور فاعل في التنسيق بينها والحركة الوطنية بفزان .. كتب عدة مقالات في صحف طرابلس آنذاك ..  تفضح الانتهاكات الفرنسية ضد المدنيين ..  ردت السلطات الفرنسية بأن صادرت جميع أملاكه .. أشجار النخيل ورث أجداده ..  في “عين السبيخايا ”  قرب تامزاوة .. صارت أرض جرداء .. حصدوا جريد نخيلها  الذي استغل في تدشين ومد طريق ” الزرب ” ..  لاقتحام رملة زلاف ..  وربط براك بسبها .. العربي عبد القادر .. الحسيني ابوبكر لقوي .. احمد نور الدين ناقل المراسلات السرية بين طرابلس وفزان .. ( الفقي انقدزن ابكدا .. عضو المجلس التشريعي لولاية فزان .. وشغل منصب مدير ناحية اوباري عام  1957 ، ثم محافظا اوباري عام 1964 والتي ضمت حينها اوباري ومرزق وغات ) .. الخير حمدان عيسى ..  سليمان محمد كنة .. أولاي كوري عيسى .. ( محمد السنوسي زائد .. ولد بمدينة مرزق 1883م  .. انضم الى حزب المؤتمر برئاسة السيد بشير السعداوي .. اودع السجن .. وفي عام 1966م عين عضوا بالمجلس المحلي مرزق ..  حسن ظافر بركان ولد بمرزق سنة 1923  .. قاد جماعة استقلال ليبيا بمنطقة مرزق وكانت له علاقة وطيدة مع زعما الحركة الوطنية في فزان وحزب المؤتمر بطرابلس .. شغل فيما بعد عضواً بالمجلس التشريعي .. ثم ناظراً للمالية والاقتصاد بالولاية .. ثم ناظراً للمعارف والصحة . ثم وزيراً للدعاية والنشر .. الاعلام والثقافة في حكومة محمد عثمان الصيد عام  1960 .. وفي سنة 1965م عين سفيرا بتونس.

هذه الاسماء وغيرها ترد بالتزامن مع  ذكر لحظة الاستقلال .. وغيرهم مما اورد مؤرخ اللحظة .. واحد رجالاتها البارزين .. الوزير محمد عثمان الصيد .. في كتابه ” محطات من تاريخ ليبيا ” .. ولد بقرية الزوية .. وادي الشاطئ  أكتوبر 1924م .. حفظ القرآن الكريم ،  وفي محاولة لاقتفاء سيرة هذا الرجل وما روى عنها بنفسه .. منهل جم يلقي الضوء على المرحلة عن قرب .. ويبعث على استلهام العبر المرشدة لإعادة بعث اللحظة التاريخية .

لحظة الاستقلال مرتبطة في الجانب المناظر بالاحتلال الفرنسي .. وسياسة الاغلاق والترهيب .. والقمع المقيت .. وهي اللحظة التي اذنت بولادة الجمعية الوطنية السرية بفزان  ، اطارا سياسيا .. ومظلة اجتماعية جامعة .. هدفها مقاومة الصلف الفرنسي .. وتهيئة الناس لمقاومة افكار المحتل الداعية الى فصل فزان عن باقي اقاليم ليبيا  ..  يكتب الوزير الصيد عن البدايات والمراحل ولحظة التأسيس  :

” عند عودتنا  رحلة الشمال .. عقدنا اجتماعا سريا في منزل الحاج نصر بن سالم بحضور كل من السيد حميد الكيلاني ، والشيخ سيدي مختار بن علي ،  وعبدالله عمر القريد ، والحاج ابراهيم بن حسن ، والشيخ السنوسي بن عامر ، والحسن بن البشير الشريف ، وفي تلك الليلة اسسنا الجمعية .

يضيف .. في تلك الفترة بحثت مع الشيخ البركولي ، والشيخ سيدي مختار بن علي ، والحاج نصر بن سالم زعيم المقارحة ، وحميد بن الحاج احمد الكيلاني ، والحاج ابراهيم بن حسن ، وعبدالله عمر القريد ، وسيدي الحاج عبدالله بن بشير الزوي موضوع تأسيس جمعية سرية لمقاومى افكار السلطات العسكرية الفرنسية لسلخ اقليم فزان عن باقي اجزاء ليبيا وضمه الى المستعمرات الفرنسية في افريقيا ، واتفقنا على ان اسافر والشيخ عبدالرحمن البركولي الى برقن  .. لنبحث عن الرجال الذين لهم ميول وطنية ويمكنهم ان يتعاونوا معنا في العمل الوطني ، واقمنا في برقن عند الحاج احمد قريش الحطماني ، وشرعنا في اتصالاتنا تحت غطاء القاء الشيخ للدروس .

وعن لحظة وصول اللجنة الرباعية .. يكتب  : غادرت اللجنة اقليم طرابلس الى فزان 16 ابريل 1948 ، وتجولت في جميع المتصرفيات والقرى الكبيرة ، وكان في كل متصرفية وقرية ممثلون لجمعيتنا ، قابلوا اللجنة في كل مكان ذهبت اليه ، وعبروا عن الموقف الذي اتفقنا عليه ، وقد سعت  السلطات العسكرية الفرنسية بكافة الطرق الى ابعاد اعضاء اللجنة عن التجمعات الكبيرة التي نظمت في المتصرفيات والقرى .

ورغم ذلك ، وبطلب من ممثلينا زارت اللجنة انحاء الاقليم ، وكان اخر اجتماع للجنة الرباعية في اقليم فزان في 28 ابريل 1948 في قريتنا التي تعرف قرية الزويه .. وأتذكر ان يوم الاجتماع كان يوم جمعة ، لذلك استطعنا ان نحشد له ألاف الناس رجالا .

مع بداية عام 1948 قررنا في فزان الانتقال من العمل السري الى العمل العلني ، بعد ان جاء الوقت المناسب ، خاصة عقب نزول السلطات الفرنسية بثقلها في ترغيب وترهيب السكان ، وتبلور لدينا اقتناع ان ثمن الحرية والانعتاق هو الدم ، اذن لابد من التضحية والخروج بعملنا الى العلنية .

في تلك الاثناء زار فزان الجنرال لوكلير الذي كان على راس القوات الفرنسية التي احتلت الاقليم . وجمعت السلطات اعيان المنطقة ، والقى فيهم خطابا خلاصته ، ان فرنسا دخلت فزان بالقوة ، ولن تخرج منها إلا بالقوة ، بعد هذا الاعلان عرف الاقليم توترا ملحوظا ، وأرسلت فرنسا امدادات اضافية لقوتها ، وجاءوا باللفيف الاجنبي الذي يتكون من جنود المستعمرات .

يمكن القول بان اللحظة ميزتها ثلاث مراحل .. الاولى .. العمل السري .. اما الثانية المواجهة او المقاومة السلمية .. أي المجاهرة بالكلمة وإعلاء الصوت .. اما الثالثة فكانت الخيار المسلح بعدما استشعر اعضائها عدم جدوى وسائلهم .. اثر زيارة لكلير وخطابه .. وإعلانه ان فرنسا دخلت بالقوة ولن تخرج بغير القوة .. وكان الخيار الوحيد المتبقي هو الذي فرضه الاحتلال نفسه .

في حوار دار بينه وبين المندوب الفرنسي .. اثر حديثه امام اللجنة ووسط الحشود معلنا رغبة الساكنة في خروج فرنسا من الاقليم ، وطلب الانضواء تحت لواء ليبيا الموحدة ..عندها سأله المندوب الفرنسي ، لما تكره فرنسا ؟

كتب يقول : ” اجبت انا اطالب باستقلال بلدي ولا اكره فرنسا ، وسألته لماذا قاوم الفرنسيون المانيا حين احتلت بلادهم ، وقلت : نحن لا نريد قتالكم لأنه لا قدرة لنا على ذلك وانتم جئتم لتسألوننا ماذا نريد .. تحدث المندوب الفرنسي مجددا .. ان فرنسا تقدم المواد التموينية للسكان وستطور الاقليم .. وادى حديث المندوب الفرنسي الى استفزاز الحاضرين وشرعوا في الهتاف باستقلال ليبيا ووحدتها ، وصرخ المرابط سيدي بن عليوه على رئيس الوفد الفرنسي ، قائلا له : انا رجل كنت ذا مال ، ولدي قطعان من الماشية ، فأخذت مني القوات العسكرية الفرنسية كل ما املك وتركتني عريانا حافيا ، فهل هذا هو تطوير فرنسا لفزان ؟

يصف اللحظة الباحث الليبي .. ابراهيم عميش ، بأنها بداية انهيار الحلم الفرنسي .. فما عادت القوات الفرنسية قوات تحرير بقدر ما أصبحت قوات احتلال عسكري مباشر ؛ تدير البلاد بالأوامر العسكرية والتنفيذ الجبري ، وفرضت على الإقليم عُزلة كاملة ؛ واستقطعته عن بقية مناطق وأقاليم ليبيا ، وأخضعت الأهالي لإجراءات عسكرية صارمة في حالات الخروج من الإقليم أو الدخول إليه  .

ومع تصاعد مطالب الساكنة بالاستقلال ، ونزقهم من سوء المعاملة ، وقيامهم ببعض العمليات المناهضة للاحتلال كما في حادثة الهجوم على قلعة قاهرة بسبها ، مركز الحاكم الفرنسي لفزان ، والنهاية المأسوية للمهاجمين . شددت فرنسا من قبضتها الامنية والملاحقات التي طالت زعامات الجمعية .. كان ابرز ضحاياها الوزير محمد عثمان الصيد ،. وعن التطور اللاحق يقول في ثنايا كتابه : ” في ماي 1948 كتب لي السيد عبدالقادر بن مسعود رسالة يقول فيها ان ضغوط الفرنسيين ضد السكان قد بلغت حدا لا يطاق ، ولم يبق لنا سوى الانتحار . واقترح تقسيم المناطق التي بها معسكرات فرنسية ، وتجنيد مجموعات انتحارية للهجوم على هذه المناطق .. بعد ان تلقيت هذه الرسالة .. كتبت له ردا طلبت منه فيه التأني ، الى حين نتصل بإخوتنا في الشمال ، حتى اذا حدثت مشاكل سارعوا الى نجدتنا ، او على اقل تقدير تحدثوا عنا في الصحف التي تصدر في طرابلس وبنغازي .. في اواسط شهر يوليو 1948 هجموا على مركز قيادة القوات الفرنسية مستعملين السيوف ، وبعض البنادق ، واستطاعوا قتل حراس المعسكر عند مدخل القلعة واقتحموها ورفعوا فوقها علم اسود تتوسطه نجمة وهلال .. للوهلة الاولى اعتقد قادة القوات الفرنسية ان القلعة تعرضت لهجوم كبير ، فتسلقوا نوافذها وخرجوا الى المعسكر المجاور لها ، وتجمعوا بعد ذلك ، وطوقوا القلعة حتى طلع النهار ، واغلقوا الطرق المؤدية الى سبها ، وهاجموا السيد بن مسعود ومن معه وكانوا في حدود خمسين رجلا ، وأبادوهم عن آخرهم ثم سكبوا على جثثهم البنزين واحرقوها ” .. لقد وجدت تلك الرسالة ضمن مقتنياته عند القبض عليه ، وعوقب على اثرها بالسجن لسنوات مع الاشغال الشاقة .

وصف الحادثة مصور الفريق الاعلامي للجيش الفرنسي Jean Soupene ..  قال ”  مع اطلالة انوار  فجر يوم  18 يونيو 1949 وقع هجوم من قبل متمردين من اهل فزان على موقع الحامية العسكرية الفرنسية ( قلعة سبها ) .. اندفعوا  من خلال الدرج المؤدي للقلعة واقتحموا المكان وقد احتجزوا 30 ( مدنيا ) .. كانوا في حراسة المكان .. قتل احد حراس البوابة بعيار ناري اثناء الهجوم .. ووصل المهاجمين الى المنصة العلوية للقلعة .. قتل ايضا مجند Gironnet بضربة سيف .. Maniscalco واخر لجأ الى الفرن واختبأ هناك .. Dupouy .. واخر قتل بعيار ناري .. يجب ان اهرب بالقفز من الجدران .. تمكن 2 من السجناء من الفرار .. Sembach مجند  فتح النار على المهاجمين لكن بندقيته تكلست وتوقفت .. وقال يجب أن تقفز مع بوشار غابرييل والكابتن فان Heems (قائد الفيلق ) من نافذة تطل ناحية الشمال .

هبت نجدة لقوات تجمعت بالمرآب .. قتل قائد المهاجمين .. وكانت الحصيلة ثقيلة هذا اليوم .. وفاة شخصين على الجانب الفرنسي .. الرفيق جان Gironnet جرح ، قتل 22 سجينا واثنين من المهاجمين.

لماذا فوجئ الفيلق غدرا ؟ لماذا لم نضع الحامية في حالة تأهب ؟ من هم المحرضين على هذا الهجوم ؟ حتى اليوم لا تزال هذه الأسئلة لم يتم الرد عليها . وهذا الحادث يعد تشويه لواقع التواجد الفرنسي في فزان ، وربما يكون ارهاصة ومقدمة لأحداث أخرى تالية  في جميع أنحاء شمال أفريقيا  . ربما خلال الأشهر المقبلة “.. ..ولم يأتي على ذكر النهاية البشعة للمهاجمين  وصب البنزين على اجسادهم وإشعال النيران بها وعددهم خمسون رجلا  .

يعقب  Jean Soupene مرة اخرى على اهمية الحصن اثناء تواجده بفزان خلال الفترة 1950 – 1952 ….”  قلعة سبها الحصن المنيع .. تحتل المقام الاول بين المعالم المميزة للمدينة .. بنيت على تل مرتفع على بعد 5 كم عن القرى المكونة للمدينة ومنها ” القرضة ” .. القلعة  تمثل مركز الحامية العسكرية للجيش الفرنسي بفزان والجنوب الليبي عموما .. مزودة بمحطة لتوليد الكهرباء ، ومحطة اتصال لاسلكي وأجهزة للبث الإذاعي .. وتقع في الطرف الجنوبي ، وتحيط بها الاسوار ايضا ، بالإضافة الى مكاتب للإدارة المدنية وأخرى للعسكرية ، ودائرة تمريض .. في 18 حزيران 1949 تعرضت القلعة لهجوم من قبل الساكنة في الاقليم .. وتمكنوا من اقتحام القلعة “.

اثر حادثة القلعة ، والرسالة التي وجدت لدي الفجيجي .. طالت الملاحقة الوزير الصيد .. وعن لحظة القبض عليه يكتب  : ”  في الليل وكنت اصلي في المسجد مع بعض الاخوة ، هجمت علينا مجموعة بقيادة متصرف جديد جاء لتوه الى المنطقة يدعى ديبا ، وهو من اشرس من عرفت من الضباط الفرنسيين . وأخذوني من المنزل الذي كان قد طوق بجنودهم من جميع جهاته ومن اعلاه ايضا ، وقاموا بتفتيشه ، وشرعوا في جمع الرسائل فقط . كانت هناك مكتبة لوالدي .. بعثروا الكتب بحثا عن اية رسالة بداخلها .. ووضعوا في يدي الحديد واقتادوني الى القلعة العسكرية في براك ، وهناك عشت اياما لا توصف . بقيت معتقلا لمدة ثلاثة ايام دون اكل او شرب .. وبعدها قدموا لي ماء ساخنا بالملح وقليلا من التمر المسوس . اثناء ذلك القوا القبض على عدد كبير من اعضاء جمعيتنا ، الجمعية الوطنية السرية بفزان ، وبعد مضي خمسة عشر يوما من الاعتقال ، شرع في التحقيق معي . كان التحقيق يبدأ في الساعة العاشرة صباحا وينتهي في الساعة الثانية عشرة ، ثم يستأنف في الساعة الرابعة بعد الظهر ليستمر حتى الساعة السادسة مساء .. طلب مني المحققون التوقيع على بعض الاوراق مقابل اطلاق سراحي .. رفضت التوقيع ونفيت جميع التهم الموجهة لي . هنا احتد احدهم قائلا : انت ستعدم سواء وقعت او لم توقع .. سحب مسدسه ووضعه على صدري .. ثم انهالوا علي بالضرب . كان ضربا مبرحا واستمرت عملية الضرب والتعذيب لفترة اسبوعين ، وكانت تتم يوميا . وتحول جسمي الى ندوب وجروح تسيل منها الدماء . وبعد ان ازدادت حدة التعذيب ، تعفنت الجروح وتقيحت .. احضروا طبيب فرنسي وكان من القساوسة ، وحين زارني سألني : لماذا اكره فرنسا ، فأجبته بأنني لا اكرهها . قال : اذن لماذا تكلمت مع اللجنة الرباعية وأضاف : لأنك قمت بذلك لن اعالجك .. استمر وضعي على هذا الحال داخل المعتقل عدة شهور ، سمح لي بالاختلاط ، مجرمين وغيرهم . وأصبحت اعمل معهم في الاشغال الشاقة .. ثم امر بنقلي الى منطقة نائية اسمها الدويسه ، كانت السلطات العسكرية الفرنسية انشأت بها حقول تجارب زراعية ، وهكذا شرعت اعمل في تلك الحقول وقد كانت بعض اراضيها صخرية ، فطلب مني تكسير الصخر بالفأس ، كان هذا العمل عملا شاقا ومرهقا .. اثناء وجودي بالمعتقل رحل كثير من رجالنا الى طرابلس سرا .. ونشرت في الاوساط السياسية اخبار الاعتقالات والتعذيب والقتل الحاصل في اقليم فزان .. شدة الخوف الرهيب الذي كان سائدا آنذاك ، لم يكن يوجد راديو في فزان اللهم إلا اذا كان لدى السلطات الحاكمة ، وممنوع دخول اية صحيفة او اي منشور )

بالإجمال .. يمكن القول .. لقد وفرت الجمعية بالأمس المظلة الاجتماعية للملمة الصفوف ، ورتق الخرق ، ونبد الفرقة .. واستنهاض الهمم اليوم .. يستدعي خوض تجربة ايجابية مماثلة .. قد يكتب لها النجاح .. وقد تهيئ الفرصة لتحقق امل الوفاق والمصالحة وعودة الامن والسلام  . ولعل في احياء اللحظة ما يمنحنا فرصة لتفهم الاخر .. في مرحلة تاريخية حرجة .. لا تستبعد طرح السؤال عن الحلم الفرنسي القديم .. لقد قال الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران : ” من دون إفريقيا فرنسا لن يكون لها تاريخ في القرن الحادي والعشرين ” . وقال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك .. مارس 2008 :  ” من دون إفريقيا ستنزلق فرنسا إلى الأسفل بين قوى العالم الثالث ” .. افريقيا حصة فرنسا .. وفرنسا تدرك صدق المقولة : ” من يظفر بأفريقيا يظفر بالقرن الواحد والعشرين ” .. و ” افريقيا سلة غذاء العالم ” .

خاب الطموح الفرنسي لإلحاق فزان بمستعمرات دول الجوار ( الجزائر – تشاد ) ، بإعلان الاستقلال ، الادارة العسكرية الفرنسية استلمت الاقليم فقيرا معدما وحان موعد مغادرتها وهو في الحالة ذاتها. وفي محاولة للإبقاء على تواجدها وارتباطها بالمكان ، وحاجة البلاد الى معونة ، قدمت ما قيمته نصف مليون دولار دعم لولاية فزان الفدرالية الناشئة ، وبعض الخبراء لتقديم المشورة والاسترشاد . غير ان تلك المناورات لم تأتي ثمرتها ، ولم تفت من عضد الحس الوطني ، وتصاعد مشاعر الكراهية تجاه فرنسا ، ولم تمحو من الذاكرة ممارساتها القمعية ، وذهبت ادراج الرياح كما سابقتها بالأمس من وعود بمشاريع اصلاحية وتخفيف وطأة الحكم العسكري ، بالتزامن مع زيارة لجنة الامم المتحدة عام 1948 م.

في مقالة بعنوان ” مولد امة “  نشرت بصحيفة التايم الامريكية بتاريخ الأثنين  31 ديسمبر 1951م ، أي بعد سبعة ايام من اعلان الاستقلال . يقول الكاتب : ” ان المواطن العادي .. الذي يعيش في وسط تلال الرمال في فزان لا يبدو واثقا من معرفة ماذا يحدث ، ولكنه كما يملك دائما كلمة تطالب بالاستقلال ، فإنه يملك كلمة يعبر بها عن الأشياء غير المفهومه وهي ( إن شاء الله ) ” .

( ان شاء الله ) لربما هي العبارة المناسبة ، وكل ما يمكن للساكنة ترديده  .. لقد ظلت فزان ولا  تزال نسيا منسيا ، وذهبت وعود العهود ، ورفضت وعود فرنسا . ويمكن القول ، ثمة في الافق اليوم حالة من الامتعاض .. وشعور ينمو ويخالج الانفس مع اشتداد حالة التوتر .. وهشاشة المشهد المفضي بين الحين والأخر لحالة الاحتراب القبلي .. وانه في كل الاخفاقات المتكررة .. دائما فزان هي القربان .. وقد لا يعدو الصواب الرأي القائل : ” ان استقرار اوضاع فزان لا يزال بعيدا .. وانه رهين ضوء اخضر فرنسي ” .

 

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :