فِي عَزَاءِ الْمَرْحُومِ

فِي عَزَاءِ الْمَرْحُومِ

كتب / عبد الرحمن جماعة

كالعادة.. كراسي بلاستيك باردة كبرودة تلك الوجوه التي تحاول أن تصطنع الحزن.. والوقار.

كنت أتبع صديقي وأقلد حركاته، إذا سلَّم سلَّمتُ، وإذا جلس جلستُ، وإذا نهض نهضتُ.. فقد كنت غريباً عن المدينة وأخشى أن أقع في مطبِّ اختلاف العادات والتقاليد.

جلس صديقي في حلقة مع الجالسين، يبدو أنه عرف أحدهم، فجلست في ركنه كطفل يخشي أن يضيع من أبيه في زحمة العزاء.

كنتُ أراقب الحاضرين بفضول من جاء للدنيا للتو، أو كبدوي تطأ قدماه المدينة لأول مرة.

اختلاف أعمار الجالسين يعطيك نظرة بانورامية على ثلاثة أجيال في نفس الآن.

أجمع الحاضرون على سبِّ الدنيا ولعنها وشتمها، لكن لا أحد ينفض يده منها، أو يتخلى عن حضنها.. الدنيا في بلدي كالعاهرة؛ أكثرهم يلعنها، وأكثرهم يتسلل إلى خدرها في جنح الظلام.

ما علينا..

بعد الانتهاء من إدانة الدنيا وشجبها والتنديد بها، استفتح أحدهم بندِ الثناء على المرحوم، وهو بندٌ طويلٌ عادة ما يُبدأ الكلام فيه بالحديث الضعيف: “اذكروا محاسن موتاكم”1.

ومع أنني أعرف المرحوم جيداً، وعملت معه لسنواتٍ في نفس المؤسسة، فقد اجتهدتُ وعصرتُ ذاكرتي لأجد له حسنة واحدة أذكره بها.. ليس لأجله هو.. بل لأجل المشاركة في الحديث، وحتى لا يُعد صمتي إدانة ضمنيةللمرحوم.. لكنني لم أجد.

قال أحدهم: كان رحمه الله صادقاً.

وقال آخر: كان أميناً.

ثم (تحلحز)2 شيخ كبير من مكانه وقال: “الموت لا يأخذ إلا الطيبين”!

قلت له: ألهذا السبب أطال الله بقاءكم؟!.. (في الهامش سأخبركم عن ردة فعله)3.

أيضاً ما علينا..

أقل ما يُمكن قوله عن المرحوم أنه كان (Double face)، فقد كان له وجهان في الواقع، وحسابان على (فيس بوك)، الحساب الأول للأدعية والأذكار والمواعظ و”جمعتكم مباركة” …وهو حساب باسمه الحقيقي.

والحساب الثاني لأغراض متعددة، نذكر منها على سبيل المثال:

غرض المراقبة، غرض المعاكسة، غرض التهجم على الآخرين..

ومن أهم الأغراض أنه كان يستعمله لاسترضاء المدير، فقد كان (رحمه الله) يدخل منه فيسب المدير ويتهمه بالفساد، ثم يدخل من الحساب الحقيقي ليدافع عنه.

رجل خمسيني يرتدي معطفاً أسود، ويضع نظارات طبية على عينيه (الدُقُر)4، وقلمين في جيبه، كان طيلة الجلسة على (الوضع الصامت)، كنت متشوقاً لسماع حديثه، فيبدو أنه رجل مثقف، أو أكاديمي..

لكن صمته طال..

طال حتى كدتُ أقول له: تكلمْ حتى أراك.

وبعد طول صمت… تكلم.

قال: “سبحان الله.. رأيت المرحوم قبل أن يموت بساعة”!.

كنت أنتظر بقية الكلام.. فلابد وأن هذه الجملة هي استفتاح لموضوع مهم.. لكنني فوجئتُ بأن هذا هو كل شيء.. فقط رؤيته للمرحوم، وكأن رؤيته له كان يُفترض أن تعصمه من الموت!.

قبل أن استمع لحديثه كنتُ خجِلاً منه فلم أدخن، رغم أن بعضهم يدخن.. لكن وبعد الاستماع لحكمته العظيمة أشعلت سيجارتي بكل ثقة.

أيضاً.. ما علينا..

لكن السؤال الذي ينتابني كلما حضرتُ عزاءً.. هو:”لماذا يتحول الميت في نظر الناس إلى ملاك؟؟!”

أظن أن السبب هو انتهاء دوره في المنافسة، فلم يعد المسكين ينافسهم على رزقٍ في الدنيا، أو حظوة عند امرأة، أو جاه عند مسؤول.. فالمسكين قد خرج من حلبة الصراع، فما عادت تُخشى بوائقه، أو يُحذر من غدره، أو يُتأذى منه بأي شكلٍ من الأشكال.

أيضاً ما علينا..

ورغم أنني غريبٌ عن الحي، ولا أعرف من أهل المرحوم أحداً، إلا أنني كنت أعرف أصحاب الوجاهة من المعزين، فقد كانت مصافحتهم تختلف اختلافاً جوهرياً وشكلياً عن مصافحة من لا وجاهة لهم، فالنوع الأخير يصافحهم الجالس دون أن يقطع حديثه، وأحياناً دون أن ينظر إليهم!.

أيضاً ما علينا..

أعرف أن القارئ ينتظر الذي علينا!

الذي علينا يا سيدي هو التالي.

أطفال يدورون علينا بكؤوس الشاي البارد.. طفل يحمل سُفرة كبيرة تتراصف فيها فناجين الشاي كطابورٍ للمستجدين في أول يوم خدمةٍ وطنية.. لكن الفصل بين الخُضر والحُمر يبدو واضحاً، فلا الفناجين الخضر تختلط بالحمر.. ولا العكس.. رغم وجودهم في نفس السفرة.

لم أفهم سبب العزل بين الفناجين، فلا الشاي الأحمر سيسرق من الأخضر .. ولا العكس.. ولا الشاي الأخضر سيُقنع الأحمر بالتخلي عن لونه أو طعمه.. ولا العكس!.

لكن.. وبما أن السُفرة يحملها طفل قليل الخبرة، فقد أدت قيادته لها إلى تصادم بعض الفناجين واندلاقها في السفرة.. ومع ذلك فقد نجح هذا الطفل الغرُّ نجاحاً باهراً في الحفاظ على العزل والانفصال بين الفناجين الخُضر والفناجين الحُمر!. 

  1. حديث (اذكروا محاسن موتاكم) ضعيف، انظر سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، حديث رقم  1019. وإنما الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» صحيح البخاري، حديث رقم 1393.
  2. تحلحز = تحرك في مكانه (عامية).
  3. لم تكن للشيخ أي ردة فعل.. لأني قلتها في نفسي.
  4. دُقُر = غائرتين (عامية ليبية).

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :