قد احكيها لكم يوماً ما !

قد احكيها لكم يوماً ما !

  • فريدة الحجاجي

سبعة وثلاثون عاماً قضيناها معاً في رحلة جمعتنا فيها الاقدار التي ارادها الله لنا ..كانت والدتي (رحمها الله) تقول : عندما يولد الانسان فإنه يحمل معه ثلاثة اشياء : تاريخ ولادته وتاريخ انتهاء حياته واسم الشخص الذي سيرتبط به خلال هذه الحياة !كان لقاؤنا الاول ذات يوم شديد البرودة في سبعينات القرن الماضي خلال حلقة نقاش محتدم شاركنا فيه مع مجموعة من الطلبة العرب من مختلف الاتجاهات الفكرية والعقائدية حول احدى طاولات مقهى جامعة بيروجيا الايطالية ، تلك المدينة الجذابة التي تعود مبانيها الى العصور الوسطى والتي لا تنقطع الحركة في أزقتها ليل نهار ، مدينة تعج بالشباب القادم من جميع انحاء المعمورة لدراسة اللغة او للالتحاق بكلياتها المختلفة ..في تلك السنوات كان العالم العربي يمر بفترة تزخر بالاحداث المهمة والمتسارعة ، فكنا ننغمس يومياً مع بقية الطلبة في نقاشات حية سواء داخل الجامعة او في المقاهي المنتشرة في ارجاء المدينة أو حتى في شوارعها وأزقتها الضيقة ، مندفعين بحماس وعنفوان الشباب الذي يعيش احداث وطنه العربي الراهنة بكل احاسيسه ووجدانه، في ذات الوقت الذي كان فيها الصراع السياسي في ايطاليا متأججاً بين التيارات والأحزاب اليسارية من جهة والأحزاب الليبرالية والجمهوريين والديمقراطية المسيحية من جهة اخرى .. وكانت وسائل الاعلام الايطالية غارقة لـ”شوشتها” في هذا الصراع ، صراعاً فكرياً وسياسياً سلمياً ساهم في ذلك الوقت في تنمية وعي الطلاب العرب والمنتمين لمختلف التنظيمات العربية لأن يتبنّوا سياسة الحوار فيما بينهم باحترام الاراء المختلفة .. فلم نشهد احداث عنف من الطلبة العرب الا فيما ندر ،،كان هناك مَن ينتمي للقوميين العرب او من اتباع حزب البعث وكان هناك الاخواني والناصري والاشتراكي والشيوعي واللامنتمي وهناك أنصار فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية ثم مؤيدي الملك حسين وأنصار ايلول الاسود وهناك الطلبة من الأرمن والأكراد الحالمين بدول خاصة بهم .. الكل لا يوفر جهداً للدفاع عن موقفه وانتمائه ما استطاع لذلك سبيلاً، كانت الاصوات تتعالى وترتفع ولكن لا أحد يقوم رافضاً النقاش او منسحباً منه ،،كنت في بداية مسيرة دراستي الجامعية وكان هو على ابواب التخرج ، انا من غرب ليبيا وهو من شرقها .. في خضم تلك الاجواء التي كانت تموج بالتفاعلات تمّ التعارف بيننا و بمرور الوقت توطدت علاقتنا اكثر فأكثر عبر اختلافاتنا الفكرية .. فقد كانت (ولا تزال) لدى كل واحد منا توجهات واراء مختلفة عن الآخر قادرة على اثارة واثراء حوارات ونقاشات متى انطلقت لا تتوقف ولا تنتهي .. وطوال سنوات زواجنا كانت طاولة مطبخ بيتنا -التي حلّت محل طاولة مقهى الجامعة – خير شاهد على ذلك ! قالت لي صديقتي : تبدوان مختلفين في اشياء كثيرة ما الذي جمعكما ؟قلت : انه التناقض الذي ذكرتي .. فهو انسان هادىء ينظر للحياة بفلسفة معينة ، مسالم صديق للكل ، قليل الكلام ، يزن كلماته ويختارها بدقة ، يقضي اغلب وقته بين الكتب ، هو موسوعة ادبية تسير على قدمين ، محلل سياسي من الطراز الاول، كان زملاؤه في الجامعة يطلقون عليه اسم (الدماغ) ، تستهويه الدبلوماسية وعمِل كدبلوماسي ليبي قدير لسنين طويلة بعد التخرج من كلية العلوم السياسية، لا يحب الظهور ويحمل طيبة وكرم وبساطة اهالي منطقة الجبل الاخضر الذي ينتمي اليها . يكبرني سناً تعلمت منه الكثير واضفت لحياته الكثير ، تحملنا صعوبات الغربة وكافحنا معاً لتوفير الحياة الكريمة للطفلتين اللتين رزقنا الله بهما . عندما اطرح فكرة جديدة من الافكار التي تختمر باستمرار في رأسي ويجدني على وشك الدخول في مغامرة تنفيذها كما هي عادتي كان يقول لي : انا سأكون معك ليس لأني أخشى عليكِ من العالم .. بل لأني اخاف عليكِ من نفسك ! اشعر بالزهو وبفيض من السعادة يغمر قلبي عندما اسمعه يصفني بالانسانة التي تقف في منتصف المسافة بين “البشر” و “الملائكة” ! مررنا بكل ما يمر به اي زوجين في هذا العالم من لحظات سعيدة واخرى كئيبة ، باعدت بيننا الحياة احياناً وصهرتنا في بوتقة واحدة احياناً اخرى ..سبعة وثلاثون عاماً بالتمام والكمال مرّت على هذه الصورة، كل يوم منها يحمل حكاية تروي حياة أسرة ليبية صغيرة اضطرتها الظروف للعيش سنوات طويلة بعيداً عن الوطن .. سنوات مرت بحلوها ومرّها ربما يأتي اليوم الذي أجلس فيه لأحكي لكم بعضاً من تفاصيلها ! فريـدة#الحياة_تبدأ_بعد_الستين..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :