- حسن المغربي
“إننا بشرٌ ولسنا طيوراً ولا مكلفين من الله بشيءٍ سوى زرع الحديقة التي أمام البيت” إبراهيم المصري كتاب “داعش وأخواتها ـ نصوص الإرهاب” للشاعر والصحافي إبراهيم المصري، يُعدُّ من وجهة نظري من أهم الأعمال الأدبية التي ظهرت مؤخراً في الأوساط الثقافية العربية. ففي هذا الكتاب الذي صدر عن دار نشر أرواد للطباعة والنشر في سوريا عام 2015م ، يتناول المصري جرائم داعش بما فيها من قهر وإهانة للعالم الإسلامي وضمير الأمة العربية التي كانت تسعى حثيثاً نحو السير في موكب الحداثة الأوروبية، أو هذا ما كانت تتمناه على اختلاف الظروف والرؤى. من خلال آلية التكثيف على المستوييْن اللُغوي والدلالي يرصد المصري ما ترتكبه داعش من همجية وصعلكة ضد الإنسان والتراث العالمي منوها إلى مشاهد الذبح والحرق والتخريب التي لحقت بالبشر والآثار والمعالم التاريخية في كل من الشام والعراق وليبيا. إنَّ أول ما يُلفت الانتباه في هذه النصوص هو التصوير الكاريكاتوري لزعماء الفكر الأصولي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي من أمثال: حسن البنا، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب وغيرهم، وقد استفاد الشاعر من الخلفية السيكولوجية لمنظومة التطرف على عدة مستويات يمكن جمعها في خاصيتين: الأولى، تتمثل في الابتعاد عن الخطابية والتقريرية الحاضرة في أغلب النصوص الحديثة سيما تلك الأعمال التي تعالج القضايا الاجتماعية والأخلاقية والدينية. والثانية، تكمن في تأثيث النصوص الشعرية والمضي بها نحو الحركة والتحول الدرامي بين المشاهد والصور التعبيرية دون أن تشعر المتلقي بالرتابة والنمطية، وبالاعتماد على الذاكرة وما تختزنه من حقائق تتعلق بفساد القيم الأخلاقية لدى قادة الفكر الأصولي. يستعرض الشاعر أهم الخصائص التي تميز الشخصية الأصولية فكرياً وأخلاقياً، فمن جهل حسن البنا للعالم المعاصر الذي ولد فيه، وقيادة حسن الصباح لجماعة الحشاشيين، إلى شهادة الشيخ محمد الغزالي ـ المعتدل دينياً ـ في واقعة قتل المفكر فرج فودة، وهي الشهادة التي بررت للقتلة فعلتهم، إلى وهم أسامة بن لادن بصوته الرخيم في محاربة “الصليبيين” يستأنف الشاعر سرد تفاصيل التطرف دون مواربة أو خوف تجعل المتلقي نفسه في حالة هستيرية وارتباك وحيرة لما يلاحظه من اختراقات دينية وإنسانية تُرتكب باسم الدين “القرآن والسنة”.. فها هو يقول (على سبيل المثال) لكل من استعمل النصوص المقدسة في نفي وإقصاء الآخر عن مملكة الله: “أنا لا أفهم القرآنَ الكريمَ إلا بوصفه كتابَ الله الذي لا يحق لأحدٍ أن يفسره، حسب الرصاصةِ التي سيُطلقها على رأس إنسان. وأعتبرُ القاتلَ كريماً، أو على الأقل مجرماً، لو قتل لمجرد الرغبةِ في القتل. أمَّا أن تدهنوا الرصاصَ بالتأويل، وتفتتئون على الله ، وتمشون في الأرض كأكياسٍ معبأةٍ بالشر، وتحولون الدينَ إلى سلعةٍ يقتنيها مَن يدفع أكبرَ عددٍ من الجماجم، وتُحوِّلون الحياةَ جحيماً مرئياً، سوف ندفعكم فيه، ولن تأخذنا الشفقةُ بكم، ونحن ندافع عن الحياةِ، بغرس أسناننا في أعناقكم، وبإبقاءِ كتابِ الله بعيداً، عن ثأرنا بأكل أكبادكم، حتى لو تحولنا إلى وحوش، فإننا سنلقى الله بريئين من بيع آياته، ومن القتل باسمه، في كل مكانٍ على هذه الأرض” فقرة “116” وفي نصٍّ ثانٍ يقول: “إن كنت مسلماً سنياً، ولا ترى فيك داعشُ مسلماً صالحاً، فماذا عن مسلم شيعي؟ عن مسيحي ويهودي وصابئ ٍ وأيزيدي؟ عن بشر يقضي الله بينهم يوم القيامة” فقرة 31. وهو يشير هنا إلى آية في سورة الحج تؤكد على أن التوبة والمغفرة والفصل بين البشر “المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين” حق استأثر به الله لنفسه، ولم يوكله لأحد من خلقه، فالله عز وجل هو الذي يحكم بين الناس بالعدل يوم القيامة، فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار. موجهاً حججه إلى أولئك الذين يرمون المخالف بالضلالة والكفر بناء على تفاسير تاريخية للنصوص الدينية، وكأنه أراد أن يقول لهم: هذه من شؤون الآخرة وليست من شؤون الدنيا في شيء.. ومن خلال تقنية المحاججة هاته تمكن الشاعر من الانتصار لحقوق الإنسان وكرامته في سياقات كثيرة مستخدماً النصوص نفسها التي استخدمها أولئك المتطرفون في إقصاء الآخر وتكفيره، وذلك بالإشارة إلى آيات قرآنية صريحة تؤكد على الرحمة والتسامح والاختلاف بين الناس، حيث استدعى – مثلاً – سورة “الكافرون” التي تكفل للناس جميعاً حرية المعتقد الديني دون قيد أو شرط.. يقول المصري: “إلى الداعشيين ومن في حكمهم ” قل يأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابدٌ ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ، لكم دينُكم ولي دين” فقرة 56. كما استدعى في أماكن أخرى آيات الرحمة مبتعداً عن المنهجية التي ركن إليها بعض العلماء في تبرير العديد من الأحكام الدنيوية في عصور الإسلام المتأخرة، والتي ساهمت في إنتاج فتاوى متطرفة لا تمت لعقيدة الإسلام السمحة، وهو يريد آيات الرحمة التي نسخها علماء التفسير بآية السيف. نعم هناك إشارات صريحة أراد بها الشاعر التنبيه لجذور داعش الإرهابية في التراث الإسلامي نرصدها في نص “فتش كتب الفقه، دقق جيداً، ضع العقل في إناء الفورمالين، لتحفظه سليماً، لا تستخدمه، ما من حاجة لاستخدام عقلك، في كتبٍ كلها داعشية” فقرة 49. وغيرها من النصوص، لكن هذا لا يعني بأن الشاعر يفهم الدين الإسلامي على أنه دين إرهابي، وإنما أراد أن يبرئ الإسلام من هذه التهمة التي ألصقت به نتيجة التأويل الذرائعي للنصوص المقدسة وتكيفيها وفقاً لمفاهيم ضيقة ومتعصبة، فالإرهاب وفعل العنف والتعصب في الدين ليست من أمارات الإسلام أو حكراً على المسلمين وحدهم، فالديانات والمذاهب السياسية الأخرى لها أيضاً تجارب مماثلة في هذا السياق، فها هو يقول: “لكل دين داعشيوه، يُسأل المسلمون في هذا، المسيحيون واليهود والهندوس والبوذيون، يسأل كل صاحب دين أو أيديولوجيا أو وجهة نظر، لا تدرك أن الحياة حقوق
أن الحياة حقوق الإنسان، وأن نفي الآخرين حتى لو بنظرة، يتلف الدين ويقتل الإنسان” ومن هنا فإن التفكيك المفاهيمي والمعرفي الذي يلوح به الشاعر ما هو سوى دعوة جريئة لإعادة النظر في تأويل النصوص التي أساءت إلى الإسلام وعرضته لخطر “الإسلاموفوبيا” في الندوات العالمية التي تتعلق بالتقارب بين الشعوب والحوار بين الحضارات. نصوص “داعش وأخواتها” نصوص غير عادية.. ليست في صياغتها وتركيبها الحداثوي فقط، وإنما في طرحها الفريد للفتاوى المؤدلجة المتمثلة في بعض الاجتهادات التي تدّعي الوسطية، ورسائل المودودي المتطرفة، وتأويلات القائلين بالإعجاز العلمي في النص الديني.. ومن جهة أخرى أقول هذه النصوص غير عادية لأنها لا تمتلك الحقيقة أو تدعي امتلاكها، وصاحبها لم يحاول صياغة مذهب ووضع نظرية معينة، كل ما أراده هو سرد أحداث واقعية بأسلوب لا يشعر بالضجر، وكم يتمنى المرء أثناء القراءة أن تكون النصوص أطول مما هي عليه، فالانسجام والانسيابية والتناغم المعرفي والفكري يخلق مسّرات ولذات روحية متعددة، يخلق ما يشبه التعايش بأجواء النص ، ذلك الشعور الذي نلمسه في الأعمال الأدبية الرائعة.
أخيراً! إن أهم ما يميز هذه النصوص هي شفافيتها، وقوة تعبيراتها، وعمقها، وإلى جانب هذا كله متعتها الفنية العالية، كما أنها تعد من الناحية التاريخية وثيقة إدانة لتنظيم داعش، فمن خلالها تمكن الشاعر بطبعه السهل، وإحساسه المرهف تصوير أعمالها الإجرامية برؤية فنان سريع التأثر، كما استطاع في الآن ذاته محاسبة أخواتها ليس من الناحية الدينية فحسب، وإنما من الناحية الإنسانية والأخلاقية والوجودية على السواء، مما يضفي على هذه المجموعة سمة خاصة تجعلها أقرب إلى البوح الارتجالي في تعبيرها عن هموم الإنسان العربي المعاصر ذلك الكائن المتطلع دوماً إلى غدٍ أكثر خصباً وإشراقاً.