مُذَكّرَاتُ امْرَأةٍ عَمْيَاءَ

مُذَكّرَاتُ امْرَأةٍ عَمْيَاءَ

  • صافيناز المحجوب

عمتي تراكي توفاها الله قامت الدنيا ولم تقعد وامتلأت صفحات الفيس بوك بصورها وكل شخص يقول ما في جعبته هذا يترحم وذلك يحمّل جهات ما المسؤولية . أول مرة أشاهد فيها عمتي تراكي منذ ما يقارب العشرة أعوام مضت دخلت على دكتور العظام تشتكي من وجع في كتفها الأيمن وكانت تحمل شوالا ثقيلا لا أعلم ما بداخلة ولكن الحمل الثقيل كان واضحا فقال لها الطبيب الوجع من الشوال بدليه على الكتف الآخر قالت له حاضر وخرجت وبعد سنوات كنت أسمع فقط عن عمتي تراكي ومقالبها أحيانا لرجال المرور في بواباتهم أو حديثها الطريف مع بعض الناس وفي السنوات الأخيرة اكتشفت أنها ما عادت تقوى على ما كانت تقوم به من صعود للجبل وأنها اتخذت من حديقة عمومية ركنا صغيرا بها تستظل به بعد أن مرضت وظلت لا تقوى على السير وطلب الطعام أو حتى البحث عنه . كنت أتحدث مع الأستاذة سليمة بن حمادي في إحدى زياراتي وتحدثني عن انشغالها بعمتي تراكي التي كانت تبث شكواها لها كلما زارتها من مرضها وأنها حاولت جاهدة مع بعض الأطباء أن يأتوا للكشف عنها ورفضوا وأن محاولاتها إدخالها للمستشفى لم تنجح وأنها تتمنى لو عمتي تراكي تنقل إلى دار المسنين رأفة بحالها خاصة مع ازدياد الأمر سوءا ووضعها الصحي ووجودها في العراء إما تحت أشعة الشمس الحارقة أو برد الليل . بعد وقفة احتجاجية قامت بها جمعية النهضة مع بعض الإعلاميين تجاوبت بعض الجهات وتم نقل عمتي تراكي إلى دار المسنين ونشرت صورها داخل الدار وفي رحلات الدار لشاطئ البحر فسبحان مغير الحال وأصبح لعمتي تراكي سرير نظيف وصديقات وأناس يهتمون بأمرها وأطباء يفحصونها وانهالت عليها الزيارات من أهالي المدينة ويشاء القدير أن يأتي أجلها فتدخل العناية المركزة وترتفع روحها إلى بارئ الكون فأقام الناس الدنيا ولم يقعدوها هذا يحلل سبب موتها بأنها نقلت من خلوتها وذلك يقول إنها لم تطق أن تفارق درنة وآخر وآخر كل يتفلسف بطريقته فماذا لو أرجعنا شريط الزمن إلى الوراء عمتي تراكي تفترش التراب في العراء الذباب يحيط بها من كل جانب علب الصفيح الصدئة هي أكوابها وصحونها وماتت عمتي تراكي في تلك الخلوة ؟ سنسمع أن أهالي درنة كلهم مجرمون وكلهم سبب موت عمتي تراكي إهمالا وأن أهالي درنة قساة القلوب وووو إلخ . حسدوا عمتي تراكي على جنازتها التي خرج فيها أهالي المدينة مودعين لها لم أسمع شخصا واحدا فقط يقول إن عمتي تراكي ماتت لأنها ارتاحت ورأت أن الموت الآن يليق بها تلقى الله بلباس نظيف وميتة تستحقها كإنسانة أولا وآخرا لم أجد من يشكر الأيادي الرحيمة التي انتشلتها من حياة الفقر والمرض وخفف عنها ألمها لتعيش بعض أيامها حياة كريمة لا تجد إلا المحبطين الذين لا شغل لهم إلا النقد الهادم وكأنهم حكماء الأرض وباقي البشر رعاة اتقوا الله في أنفسكم فغدا تحاسبون فالأجدر بكم أن تترحموا على عمتي تراكي وتكتبوا في حقها كلمات النعي فاتهاماتكم الباطلة لن تجد صدى يُسمع ولن تعيد ميتا إلى الحياة ختاما تحية إجلال للأستاذة سليمة لأنها الأم الحنونة التي احتضنت عمتي تراكي في وقت كان الأطباء والناس يتملصون من الاقتراب منها والدليل أن أكثر عدد من الصور التذكارية ابتداء من أبناء الأستاذة سليمة إلى أحفادها كانت تضمهم مع عمتي تراكي فلتخرس تلك الألسن الكاذبة ولتحيا الأيادي الخيرة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :