قصة “صيّاد الألسنة” ( 1 )

قصة “صيّاد الألسنة” ( 1 )

روعة سنبل

      نؤمن بوجوده كلّنا، إيماناً متوارَثاً مطلَقاً، لا يعوزه دليل، مع ذلك فإنّ دليلاً جديداً يظهر باستمرار،  يستيقظ أحدنا بالأعراض نفسها: عيون وادعة مستكينة، وفم منطبق بإحكام، نجتمع كلّنا، يفتح فمه تحت إلحاحنا لنراه سليماً، لا أثر لجرح أو دم، فم سليم تماماً، لكنّه خالٍ من الّلسان!!

      في كلّ مرّة نصحب الضّحيّة، لنلتقي بآخر من جلسوا و تكلّموا معه، نترافق جميعنا إلى طرف القرية، حيث المقبرة الّتي تتسلّق شاهداتها الرّخاميّة سفح تلّة صغيرة، تطلّ على القرية، نبحث في حائط المقبرة المتداعي الطّويل، عن بقعةٍ خالية نسبيّاً، ندوّن فيها آخرما تلفّظ به من كلمات، ربّما أثارت حفيظته هو، واستحضرته بيننا، ندوّنها، لتضاف إلى قائمة الكلمات المحظورة.

      قد يبدو الأمر عبثيّاً، فالحائط امتلأ بكلمات، يستحيل على أحد حفظها، لكنّنا سنكتب لأحفادنا، كما كتب لنا أجدادنا!

      اعتدنا جميعنا قلّة الكلام، أفواهنا مطبَقة أغلب الأوقات، والألسنة يابسة في حلوقنا، نتفاهم تارة بالإشارة والنّحنحات، وتارة بالصّفير والتّصفيق، وأحياناً بالزّقزقة أو المواء أو العواء. لم نعتدِ الأمر فحسب، بل أقنعنا أنفسنا بميزاته أيضاً، إذ ليس هيّناً، أن يحيا المرء في قرية هادئة وادعة!

     في أحد الصّباحات، كنّا نلعب كرة القدم، عكّر ضجيجُنا صفوَ القرية وهدوءَها، فابتعدنا نحو طرفها باقتراح من بعض الكبار، ووصلنا المقبرة.

     التقط أحدنا حجراً كلسيّاً، رسم على حائط المقبرة خطّين عموديّين متوازيّين، أتبعهما بثالث أفقيّ موازٍ للأرض، ووقف ليحرس المرمى.

     كنّا منهمكين في ركل الكرة والصّياح، تعلونا سحابة غبار، صنعتها أقدامنا النّشيطة، عندما تعالت ضحكات حارس المرمى، بدأت خافتة ًمتردّدة، ثمّ غرق في موجة ضحك صاخب؛ نسينا الكرة و اتّجهنا نحوه مستفهمين، كان يشير إلى الكلمات المكتوبة على الحائط ويضحك، قرأنا عشرات، بل مئات الكلمات البسيطة العاديّة، لكنّها بتجاورها، بدت سخيفة غبيّة، مثيرة للضّحك.

     هجرنا كرة القدم و ألعاب الصّبيان كلّها، وانصرفنا للعبتنا الجديدة؛ في أيّامنا الأولى كنّا نكتفي بالاشارة للكلمات والضّحك، شيئاً فشيئاً تجرّأنا على الهمس بها بصوت منخفض، نضحك وقلوبنا ترتجف خوفاً؛ بعد أيّام تجرّأنا على نطق بعض الكلمات بصوت مسموع، وشيئاً فشيئاً صرنا، نتبارى بالصّراخ بالكلمات وبالضّحك، نجحنا تدريجيّاً بقصقصة أجنحة الخوف وتحجيمه، حتّى تقلّص صوصاً صغيراً مرتجفاً، ينتفض قليلاً، لينقر قلوبنا، ونحن في أسرّتنا قبل النّوم، حين نتذكّر حكاياتٍ مرعبة، يرويها الكبار من أهل القرية عنه هو، يوم كان بينهم، حقيقيّاً، من شحم ولحم. يتبع

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :