كرسيّ في حديقة على البحر

كرسيّ في حديقة على البحر

  • جميلة الميهوب

عندما نشبت الحرب في يوغوسلافيا شعرت بألم وحزن عظيم. كيف لهذه البشاعة أن تظهر من ذلك الشعب الطيب الجميل!؟

قطعة من الجنة سقطت سهواً وظلت معلقة في السماء. تلك القرية الجبلية الصغيرة البعيدة، البعيدة. دائمة الخضرة والضباب. لم أر فيها التراب ولم أر فيها أغنياء. جمال تلك القرية كجمال قلوب ساكنيها وبقدر معاناتهم. قرية جميلة ساحرة، مغلفة بالألم والطيبة.

أهلها مزارعون وعمال بسطاء كادحون، بالكاد يملكون قوت يومهم. يصرّون على دعوتي لعشاء، مشروب أو قهوة كلما قابلت أحداً منهم. كنت وما زلت حتى هذه اللحظة أشعر بنوع من الخجل وتأنيب الضمير لقبولي دعواتهم أمام إصرارهم الشديد.

نهارُ تلك القرية هادئ لا يخدشه إلا جرس الكنيسة وصوت عجلات القطار على السكة الحديد تتبعها صفارته القوية المدوّية وهي تعلن الرحيل. في المساء، بعد عودتهم من العمل مباشرة بملابسهم القاتمة، البالية. بوجوههم المنهكة، الشاحبة يقصدون الحانات المنتشرة بكثرة. موسيقى وأغانٍ شعبية جياشة العاطفة، تنبعث من تلك الحانات تفيض حزناً وأسى وتنتشر في فضاءات القرية. داخل تلك الحانات وخارجها، على الطاولات الموضوعة فوق الأرصفة، يسكرون حتى الثمالة، يغنّون ويرقصون. على تلك الأنغام يكسرون أطباقهم ويكسرون معها آلامهم. على تلك الأنغام يبكون حياتهم ثم يغادرون.

في الصباح الباكر، بابتسامات جميلة وقلوب طيبة يباشرون أعمالهم. في الصباح تعود القرية إلى هدوئها الذي لا يخترقه إلا صفّارة القطار وصوت عجلاته على السكة الحديد. هكذا كانت حياتهم في قرية غروجا الصربية بيوغوسلافيا، كما رأيتها قبل أكثر من ثلاثين عاما، عندما كنت في العشرين من عمري، وكنت في ضيافة أسرة يوغوسلافية صديقة.

صباح السفر للعودة إلى ليبيا، عندما خرجنا من البيت وركبنا السيارة، كان الضباب يغطي المكان. خلفنا خرجت الجدة. وقفتْ أمام مدخل البيت تلّوح بيديها والدموع تغطي وجهها. تحركت السيارة، والجدة تلّوح بيديها وتبكي. ظلت تلّوح بيديها وتبكي إلى أن غيّبنا الضباب.

طرابلس. بعد عدة سنوات

في الصباح كان علينا أن نغادر أوتيل “المهاري”. حرصتُ على حمل باقتي بيدي. باقة الورد التي حملتها أمس وأنا مرتدية فستان فرحي. حملتها اليوم وأنا أرتدي الجينز.

انتقلنا إلى المدينة السياحية بمدينة جنزور للمكوث فيها أسبوعاً، قبل موعد سفرنا إلى سوريا لقضاء إجازة شهر العسل.

وسط أوتيل المدينة السياحية، في إحدى الغرف القريبة من غرفتنا، كانت تقيم أسرة يوغوسلافية مكونة من أب وأم وبنتين.

لا أذكر الأب، ولكني أذكر الأم الأربعينية بوضوح. كل صباح، عندما أفتح الغرفة أجدها جالسة على كرسي في الحديقة التي تتوسط الغرف مطلةً على البحر. كانت تجلس باتجاه البحر شاردة وصامتة طول الوقت. لا أذكر أني سمعت صوتها. تلك السيدة لا تغادر الكرسي في النهار إلا نادراً. تغادره عندما يحل المساء. تدخل غرفتها للنوم. أشك في أنها تنام.

تعرفتُ على البنتين. الصبية اسمها سابينا. لم أعد أذكر اسم الطفلة التي كانت تقضي معظم وقتها في اللعب حول كرسي أمها. تعرفت أكثر على سابينا، وتبادلنا بعض الأحاديث. تجنبتُ الحديث معها عن بلادها. كنا نلتقي كل يوم. لعبنا كثيراً، وقضينا أوقاتاً فيها بعض المرح. عندما أتأخر في الخروج من الغرفة، كانت سابينا تأتي وتجلس على كرسي مواجه لغرفتنا. لم تطرق الباب يوما. فقط تجلس. وما إن أخرج حتى تركض باتجاهي بكل فرح.

تلك الأسرة كانت إحدى الأسر اليوغسلافية المسلمة الهاربةً من الحرب. قتل الجيش الصربي عدداً من أفراد عائلة الأم أمام عينيها. هذا ما عرفته.

حان وقت سفرنا إلى سوريا. كانت سابينا مع أختها بانتظاري أمام باب الغرفة. وأنا أودع سابينا أعطيتها باقة ورد زفافي التي كنت ما أزال أحملها وأحتفظ بها كما هي. ترددت سابينا في أخذها، واتجهت بنظرها ناحية الأم التي كانت كعادتها جالسة على الكرسي. وعلى غير عادتها كان نظرها باتجاهنا هذه المرة. تبادلتا النظرات. بفرح وبهجة أخذت سابينا الباقة من يدي. وفي نفس اللحظة غمرتني بحضن لطيف دافئ ما زال دفؤه يسري في جسدي حتى الآن.

عندما ركبنا السيارة التفتُّ. كانت باقة الورد في حضن الأم الجالسة على الكرسي. سابينا وأختها تلّوحان لي بيديهما الرقيقتين وتبتسمان.

ظلتا تلّوحان وتبتسمان.

سيدة يوغوسلافية في بداية الأربعينات تدعى سابينا. جالسة في مكان ما من هذا العالم. في وقت ما من هذا الزمن. تحتسي قهوتها وتتابع نشرة الأخبار. تضع فنجانها من يدها. تأخذ قلماّ وتبدأ في الكتابة:

عندما نشبت الحرب في ليبيا شعرت بألم وحزن عظيم.

كيف لهذه البشاعة أن تظهر من ذلك الشعب الطيب الجميل!؟

كيف لهذه البشاعة أن تظهر من تلك البلاد الدافئة!؟

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :