كلام حبيبي يا ناس

           كلام حبيبي يا ناس

أحمد قشقارة

في بداية الثمانيات من القرن الماضي، تعبتُ من مهنتي التي كنت أزاولها كعازف موسيقي في المطاعم والحفلات الخاصة، وأصابتني حالة من القرف بسبب الانحطاط الذي كان يسود أجواء هذه الحفلات، بدءً من نوعية الأغاني التافهة التي كنا مجبرين على أدائها، وانتهاء بنوعية الجمهور السخيف الذي كان يحضر.. جمهور بذوق متدنٍ لا ينتشي طربا إلا بكأس العرق وهز الخصر على صوت الطبلة ومواويل العتابا

كنا نقضي الليلة من أول المساء حتى ساعات الصباح ونحن نعزف أحط أنواع الموسيقا لحثالة المجتمع من ذوي ربطات العنق الأنيقة والسيارات الفارهة التي تنتظرهم على باب المطعم.. ثم نعود إلى بيوتنا مرهقين مخمورين (مطووشين) وكل ذلك مقابل أجر قدره ثلاثمائة ليرة سورية.. ولكن الحق يقال، كانت هذه الثلاث مائة لها وزنها، ويمكنك عزيزي القارئ أن تقدّر قيمة هذا المبلغ، إذا عرفت أن سعر (باكيت سجائر المارلبورو) كان فقط 4 ليرات سورية في ذلك الوقت.. وكانت وجبة غداء لشخصين في مطعم محترم لا تكلف أكثر من مئة ليرة.

ومع هذا فقد سئمت هذه المهنة المتعبة.. وبدأت أبحث عن عمل (محترم) خاصة وأنني كنت أتهيأ للانتقال من مرحلة العزوبية وطيش الشباب، إلى مرحلة الزواج التي ينبغي لها شيء من الاستقرار.

وبعد رحلة مضنية في البحث عن عمل لشخص مثلي لا يمتلك أي خبرات مهنية أو مؤهلات سوى (دو.. ري.. مي..) استطعت أن أحصل على وظيفة (مدرس موسيقا) على نظام الساعات، أي وظيفة غير ثابتة، وتم تعييني في مدرسة تقع في أحد أكثر أحياء المدينة عشوائية.. وكان من مميزات هذه المدرسة العجيبة أن التلاميذ فيها معظمهم من الراسبين سنتين أو ثلاث، وعلى الأرجح أيضا أن أهاليهم لم يسجلوهم في دوائر النفوس بنفس العام الذي ولدوا فيه وتأخروا ربما سنة أو أكثر، الأمر الذي جعل منهم أكبر من أقرانهم كتلاميذ في الصف السابع والثامن… يعني كل واحد منهم قدّ (الشنتير).

أذكر أنني ذات يوم كنت منهمكا إلى أقصى حد، وأنا أشرح للتلاميذ أهمية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، ثم حملت آلة الأوكورديون لأعزف لهم شيئا من المقدمة الشهيرة للسيمفونية، وأنا أعتقد أنني حققت إنجازا عظيما في تهذيب الذائقة الفنية والجمالية للتلاميذ، وما أن بدأت بعزف أول ثلاث علامات: (تَ تَ تـ تاااااا) فإذا بتلميذ طويل ضخم بليد يرفع اصبعه وينادي بصوتٍ جهوري عالٍ: إستاوز… إستاوز.. 

توقفتُ عن العزف، ظننت أنه يريد أن يسأل سؤال مهماً يتعلق بالفرق بين السيمفونية والكونشيرتو.. قلت له: نعم…؟ تفضل…!

قال لي ببلادة وهو يمطّ حنكه:

إستاوز.. دقّ لنا غنّية كلام حبيبي يا ناس لسمير سمرة

لا أعرف كيف تمالكت أعصابي…! يا ابن الـ (…) صار لي ساعة عم بحّ صوتي وعلّ قلبي لأشرحلك عن بيتهوفن، وانت بدك ياني أعزفلك لسمير سمرة…!!

ولكن التلميذ البليد، وكأنه كان يتعمّد استفزازي قال لي بوقاحة:

آي ولو أستاذ.. ليش هيك عصّبت؟ قول إنك ما بتعرف تعزف كلام حبيبي يا ناس..

وعينكم ما تشوف إلا النور.. كان فيني عقل وطار…! أمسكت بالعصا بعد أن فقدت أعصابي وبدأت أضربه.. هون بيوجعك وهون ما بيوجعك.. والله لربّي فيك المدرسة يا عكروت..

وكسرتُ له يده

المصيبة أن والد التلميذ في اليوم التالي جاء إلى المدرسة، وعرفت أنه مساعد أول في المخابرات.. الله ستر ونفدنا من كارثة بأعجوبة.. ولهذا السبب تركت مهنة التدريس.

تنقلت بعدها بين عدة مهن، لا أعرف عنها شيئا ولا أملك أية خبرة فيها.. كنت أريد أن أعمل أي شيء كي أكسب بعض المال لأفتح بيت الزوجية…! إلى أن دبّر لي أحد الأصدقاء عملا في فندق الميرديان (عامل دهّان) مع أنني بحياتي ما أمسكت بيدي فرشاة.. كان رئيس الورشة يشفق عليّ فيعطيني فرشاة وسطل مليء بالـ (لكر) ويطلب مني أن أدهن المقاعد الخشبية المتوزعة في الحدائق المحيطة بالفندق.. كنت آخذ العدة وأذهب إلى أبعد ركن، أصب سطل اللكر كله على أحد المقاعد بحقد، وأنا أقول بيني وبين نفسي: لطيزي.. شو أنا دافع حقو من جيبتي…! ثم أقضي الوقت نائما تحت ظل شجرة إلى أن ينتهي الدوام.

تشاء المصادفات العجيبة والطريفة أن يوقّع صديقي الفنان الراحل (سمير زوزو) عقدا مع إدارة الميريديان لإحياء الحفلات الليلية لمدة شهر كامل، مع المطرب اللبناني (جوزيف نمنم) وطلب مني سمير أن أكون مع فرقته كعازف ناي بأجر يوميٍ كان مغريا في تلك الفترة.. وطبعا وافقت على الفور دون تردد، كانت فرصة رائعة بالنسبة لي.. وهكذا كنت آتي صباحا إلى الفندق وأرتدي ملابس العمال الحقيرة لأحمل سطل الدهان.. وفي فترة الاستراحة أدخل مع العمال لتناول وجبة الغداء في القبو مع حثالة البروليتاريا… أما في المساء، فقد كنت أتحول إلى شخص آخر تماما، بعد أن أنضو عني ملابس البروليتاريا الرثة، أحضر بكامل أناقتي، بدلة رسمية مع ربطة عنق وبارفان مع الفرقة الموسيقية، وكنا طبعا قبل بدء الحفل نجلس في المطعم لنتناول عشائنا كفنانين محترمين.. كان مدير الإطعام يتجول أحيانا في المطعم، وحين يراني بكامل أناقتي أتناول عشائي مع بقية الزملاء الفنانين، ينظر إليّ باستغراب شديد ويطيل النظر وكأنه يقول بينه وبين نفسه: وين شايف هالوجه…! قسما بالله الرجل كاد أن يصاب بانفصام الشخصية، وأعتقد أنه كان ينهي تساؤلاته الداخلية وهو يقول لنفسه: لالا.. لا مستحيل يكون هذا العازف المحترم هو نفسه عامل الدهان الذي يأتي صباحا مع العمال.. مستحيل.. يخلق من الشبه أربعين.

يمضي بنا الزمن بكل ما فيه من عجائب وغرائب ومصادفات، وأصير في طالبا في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.

في بداية التسعينيات، لم تكن وسائل النقل بين المحافظات متوفرة بكثرة، لم يكن هناك بالإضافة لباصات الـ (هوب هوب) سوى شركة بولمانات واحدة وهي (الكرنك)، وكان المواطن الذي يريد أن يدلل نفسه قليلا في السفر من دمشق إلى اللاذقية في باصات الكرنك، بعيدا عن فوضى وعبثية باصات الهوب هوب، لا يحصل على بطاقة ركوب في باص الكرنك إلا بشق الروح وبعد جهد جهيد، خاصة في أيام الخميس والعطل الرسمية حيث الازدحام الشديد.

في أحد الأيام قررت السفر من دمشق إلى اللاذقية.. ذهبت إلى البرامكة حيث كراج باصات الكرنك لأحجز تذكرة، وإذا بالناس كيوم الحشر فوق بعضها على شباك التذاكر.. صراخ وقتال وطحش وتدفيش ووووو….

يا للهول…!

كيف لي أن أقتحم هذه الجماهير المحتشدة أمام شباك التذاكر..! والحشا يفعسوني فعسا ودهسا وخنقا دون أن أحظى ببطاقة ركوب.

توقفت قليلا أتأمل تلك اللوحة السوريالية العبثية، والأفكار تتصارع في رأسي.. هل أذهب إلى باصات الهوب هوب..! هل ألغي السفر..! هل أذهب لكراج التكسي في العباسيين؟ ولكن ليس معي ما يكفي من النقود..! ماذا أفعل…!!

وبينما أنا واقف سارح مع أفكاري العقيمة، اقترب مني شخص ضخم الجثة مربوع الكتفين يرتدي بدلة عسكرية مموهة، وقد شمّر عن ساعديه لتظهر عضلاته القوية، وعلى زنده شارة قماشية مكتوب عليها (الوحدات الخاصة).. قال لي بصوت جهوري:

مرحبا إستاااااااز

ارتبكت.. أجبته متلعثما:

أهلين..

كيفك ابن البلد..؟

الحمد لله.. تمام.. يا هلا..

شو ما عرفتني..؟

لا والله.. عدم المؤاخذة.. ما تشرفت بمعرفتك..

تطلع فيني منيح.. ما تذكرت هالوشّ..!

وجهك ما غريب عني.. بس والله ما تذكرتك.. لا تواخذني 

ما أنت أستاز الموسيقا…؟؟

وبدأت أنبش في ذاكرتي.. قلت في نفسي لا بد أنه إذن أحد تلاميذي حين كنت مدرساً للموسيقا… ولكن من اين لي أن أعرفه، فقد كان عندي أكثر من ألف تلميذ..

وبينما أنا سارح في تلافيف ذاكرتي، قطع عليّ هذا الجندي المقاتل تساؤلاتي وقال:

أنا كنت عندك طالب في المدرسة.. أنت كنت تعلمنا موسيقا وتدقلنا عالأركديول (يقصد الأوكورديون).. أنا اللي ضربتني وكسرتلي إيدي.. تذكرتني..؟؟

يا ويلي.. ما هذه المصيبة..! إجاك الموت يا تارك الصلاة…! بدأ العرق يتصبب من جبيني.. جفّ حلقي.. تسارعت نبضات قلبي.. قلت في نفسي: أكلتها يا أستاذ أحمد.. أكلتها وما حدا سمّا عليك.. والله سينتقم مني الآن ويمزقني تمزيقا.. يعني بوكس واحد من عضلاته المفتولة كافية لأن تطرحني أرضا وتجعلني أنسى الموسيقا وألعن بيتهوفن في قبره…!

حاولت قدر الإمكان إخفاء خوفي وارتباكي والتظاهر بالتماسك والثبات، ورسمت على شفتي ابتسامة مصطنعة لعلها تخفف من فورة غضبه وتشفع لي وقلت مداعبا:

أووووه… سبحان الله.. كان زمان… ماشا الله عليك صرت شب البركة.. يخزي العين..!

يبدو أن هذا الجندي القادم من عمق التاريخ أحس بخوفي وشعر بمدى الورطة التي كانت تحيط بي في تلك اللحظة، فأخرج كل ما في أعماقه من شهامة (ابن البلد) وقال محاولا أن يرفع من معنوياتي قبل أن أنجلط من الخوف:

ولا يهمك إستاذ.. إنت ابن بلدي وتاج راسي… لعيونك إستاذ.. أنا بخدمة شواربك.. قل لي شو لازمك.. ليك عيّن.. والله بطحبشلك الدنيا طحبشة إذا بدك.. بس قل لي شو لازمك..؟

تنفست الصعداء قليلا، وقد شعرت وكأنني نجوت من حبل المشنقة.. قلت له:

والله ما بدي غير سلامتك..

شايفك بالكراج.. شو نازل عالبلد..؟

إي والله كنت ناوي سافر.. بس ما قدرت أحجز بطاقة.. شوفة عينك الزحمة..

ودبّت الحميّة في صدر المقاتل المغوار وقال بحماس شديد:

ولك شو زحمة ما زحمة…! هات لقلك هالهوية.. دقيقتين بتكون البطاقة بجيبتك.. قال زحمة قال…!

أعطيته هويّي.. ووقفت أنتظر واراقب… حانت ساعة الصفر، وانطلق المغوار ليقتحم جموع الجماهير المحتشدة على شباك التذاكر دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض.. طبعا.. إنه من الوحدات الخاصة…! شو قليلة يعني..؟

وخلال بضع ثوانٍ كان قد وصل إلى الشباك وصرخ بالموظف بأعلى صوته: اقطع لي بطاقة هون بالمقعد الأول للأستاذ

عاد إليّ مكللا بالغار، عودة الأبطال من المعركة، حاملا بيده بطاقة ركوب تحمل الرقم واحد في بولمان الكرنك العظيم:

تفضل إستاز… وأحلى بطاقة لأحلى أستاز… كيفني معك..!

شكرا.. يسلموا إيديك.. والله إنك قبضاي..!

بتأمرني خدمة تانية إستاز.. لعيونك ها… عليّ الطرباء بطحبشلك الدنيا طحبشة..

كان عليّ طبعا أن أنهي هذا اللقاء التاريخي بأسرع وقت وبأية طريقة، فقد بدأت أشعر بالخجل والحرج من عيون الناس الذين ينظرون إليّ بحقد، وهم يرون الطريقة التي حصلت فيها على بطاقة الركوب.. فشكرته مرة أخرى على جهوده العظيمة، وقلت له اعذرني لقد تأخرت يجب أن أذهب.. انشالله منلتقي مرة تانية.. يالله سلام…  ومددت يدي لأصافحه.. وقبل أن أغادر استوقفني وقال لي:

إستاز قبل ما تمشي بس بدي إسألك سؤال.. وتجاوبني عليه بصراحة

تفضل حبيبي ولا يهمك.. اسأل:

– يا ترى لسّاتك ما بتعرف تعزف غنية كلام حبيبي يا ناس…!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :