- أ / المهدي يوسف كاجيجي
كنت فى عيادة الطبيب انتظر دوري، فدخلت في حوار مع جاري قتلا للملل، كان شيخا مثلي، كان حديثنا إجتراراً عن زماننا الذى كان، عندما كان الحجام طبيبا، والعطار صيدلياً، ثم جاء الطبيب، فى البداية كان اجنبيا، يعتمد فى فحصه على سماعته وفراسته وخبرته وإنسانيته. حكيت له تجربتي الأولي، عندما ذهبت مريضا إلى مستشفي سبها، كان الطبيب ضابطا فرنسيا لا يعرف من العربية سوى ( كُحي واتنفسي ) ولكنه كان “نطاسيا” بارعا، وانسانا خلوقا دائم الحضور فى المستشفي وعند الضرورة كان ينتقل لمنزل المريض. وعقبت ضاحكا: والأهم من كل ذلك كان الكشف بالمجان.ابتسم جارى وقال: كشف الدكتور مقدور عليه يا حاج، المشكل الحقيقي أن طبيب هذا العصر لم يعد يحمل سماعة، وليس لديه وقت ليستمع اليك. هو سؤال واحد فقط يطرحه عليك : خير .. من شنو تشكى يا حاج ؟، وأنت عارف الشيابين كثيروا الشكوى، وكل شكوي ستتحول إلى طلب تحليل او تصوير بواسطة التقنيات الحديثة عالية التكاليف ، ليس بمقدور الأفراد البسطاء الحصول عليها، سوى ضمن منظومة من الخدمات الطبية، التى من المفروض أن تقدمها الدولة لرعاياها، وهو غير متوفر بل اصبح من المستحيل، فى غياب الدولة وتغلغل الفساد والانهيار الكامل لنظام الخدمات الصحية في ليبيا، وترك المواطن التعيس فريسة للخيار الوحيد والمتاح أمامه، وهو المستشفيات والعيادات الخاصة، دون رقابة. أضف لذلك ” الروشتة ” وهي القائمة الطويلة من الأدوية وتكاليفها الباهظة، وهي حكاية اخري. والله يا حاج الشكوى لغير الله مذلة،ولا يخيفني الموت يوما، لانه حق. وكل ما يرعبني هو ذل المرض، لشيخ فى آخر سنوات العمر كل ما يملكه راتب تقاعدى لا يكفي لشراء علبة دواء من القائمة الطويلة من أدوية الشيخوخة.
هادِكَ أمريكا وهَادي ليبيا
أبلغتنا الممرضة أن الدكتور ألغى العيادة لظرف طارئ.ونحن فى طريقنا للمغادرة، أحببت أن أخفف على صاحبى، فاسردت له حكاية بالمناسبة، قرأتها مؤخرا عن متقاعد أمريكي، وقف أمام القاضي متهما بسرقة رغيف، لأنه كان يتضور جوعا. فحكم القاضي عليه بغرامة عشرة دولارات قائلا له:سوف ادفع الدولارات نيابة عنك لأنك لا تملكها، فصمت الجميع، ثم نظر القاضي للحاضرين وقال: أما انتم محكوم عليكم جميعا أن يدفع كل واحد منكم عشرة دولارات للرجل، لانكم تعيشون معه، ومع ذلك تركتموه يتضور جوعا. أرتسمت على وجه محدثي ابتسامة ساخرة حزينة وقال : والله إنك رجل طيب يا حاج ،هاديك
امريكا وهذه ليبيا.
* الصورة:طبيب إيطالي يقوم بالكشف على أطفال ليبيين،من منشورات صفحة صور ليبيا القديمة النادرة – عبدالحميد البكوش.