- شكري السنكي
كتاب جدير بالاقتناء والاطلاع عليه
أوَّل مَا لفت انتباهي، عنوان الكتاب: «كُنَّا وكاَنوا»، لصاحبته الأستاذة محبـوبة خليّفة!. عنوان الكتاب أو الرواية، يُشير إِلى كُنَّا وكان، أي الماضي ومَا جرى وكان، وهذا يعني الحكايّة، التجربة الشخصيّة، سجل الأحداث، القصص المحتوية على عبر ودروس يُمكن الاستفادة منها فِي الحيَاة. علاوة على أن العنوان كان جزءاً مِن بيت فِي موال للفنّانة الكبيرة فيروز: «كُنَّا وكاَنوا هالبنات مجمعين.. يامي وما بعرف ليش نقاني أنا»، والّذِي جاء فِي مقدِّمة أغنيتها الشهيرة: «جايبلي سلام» الّتي كتبها: الأخوان رحباني، ولحنها: فيلمون وهبــه، فقلت إن حكايّة الكتاب سيتم تناولها بنفس أدبي وفنّي، فاستبشرت خيراً، ثمّ تذكرت المثل الشّعبي الِلّيبيّ القائل: «الربيع من فم الباب يبان».
ومَا جعل استبشاري يذهب إِلى مَا هُو أبعد، معرفتي بأن الكاتبة تقرض الشعر العامي، وتستمد قصائدها مِن ينابيع شاعريتها الملهمة وفكرها المنفتح وانتمائها لكلِّ مَا هُو جميل فِي موروثنا وتراثنا الِلّيبيّ، فهي لّيبيّة أصيلة مِن مدينة درنة، موطن الثقافة والفن والجمال. وقد قالت هي عَن نفسها فِي كتابها قيد العرض، ما يلي: «أعشق الشعر العربي الفصيح القديـم والحديث، ولكن أجد نفسي فِي الشعر الِلّيبيّ العامي. وأميل فِي الشعر العربي الفصيح لشعراء المعلقات جميعهم، لكن سيِّد قلبي وروحي كان وما زال وسيبقى المتنبي».
وقد وجدت الكتاب كمَا ظننت، وكان استبشاري بعنوان الكتاب فِي محلـــه!.
أميل إِلى العنوان الجذّاب، والجذّاب مِن العناوين يلفت النظر إِلى الكتاب، وقد يساهم فِي تسويقه ويزيد مِن عدد مُقْتَنِيهِ، أمّا المحتوى فهُو وحده الّذِي يعطي المعنى والقيمة، والّتي عندها يتحقَّق الغرض الّذِي قصد إليه الكتاب، ويتحقَّق الانتشار!!.
والآن، أترك عنوان الكتاب إِلى محتواه، وأبدأ بالمقدِّمةِ الّتي جاءت بعْد «الإهداء» الجميـل الّذِي خصصته صاحبة الكتاب لروح والدها عطيّة علي خليّفة، ولروح عمّها فرج علي خليّفة، فقالت: «أهديه إِلى روح والدي الّذِي تعب وعافر حتَّى بنى اسماً فِي عالـم تجارة الأدويّة، ثم جاءه زوّار منتصف الليل واستلموا مفاتيح صيدليته ومخازنه وعاد إِلى حديقته يزرع الورود وكل مَا يحتاجه بيتنا مِن خضرة وفاكهة ويجلس فِي المساءات يتأمل هذه الدنيا العجيبة ويبتسم!!.
ولعمّي الّذِي لم يرزق الولد لكننا كُنَّا كل عالمه وكان كل عالمنا.. أحببناه وأحبّنا.. ووضع نفسه وكل مَا لديه تحت طلبنا، مَا تذمّر مِن قَدَرِه ولم نتركه يفعل، وكُنَّا له كمَا كان لنا».
كتبت المقِّدمة أو تقديم الكتاب، ريما جمعة عتيقة، ابنة الكاتبة، والّتي كانت – وكمَا قالت فِي تقديمها – وراء إخراج الكتاب، حيث شجعت والدتها على النشر، مؤمنة بجمال قلمها وبتجربتها الغنيّة والفريدة، معتقدة بأن تجربتها تستحق القراءة والاحتفال بها.
قالت ريما إنها ليست كاتبة ولم يسبق لها النشر، وغير واثقة بأنها ستكون قادرة على تنميق الكلمات وصياغة العبارات على نحو يليق بصياغات الكتاب، ويتناسب مع إحساس وجمال لغة الكاتبة، ولكنها قبلت المهمّة الصعبة تلبية لإلحاح أمها، وخوفاً مِن زعلها.
أقول بعدما قرأت المقِّدمة، إن إلحاح الكاتبة كان فِي محله، ونعم ما فعلت، فهي لم تختر الشخص الصح لتقديم كتابها فحسب، إنّما قدمت لعالم الكتابة قلماً لم يقتحم المجال مِن قبل، لكنه قلم واعد، وجميل، وقادر على الإيجاز، والّتي هي أصعب فنّون الكتابة. والإيجاز الّذِي وصلت إليه ريما، دفعني إِلى الدهشة، وقلت: كيف يصل قلـم إِلى هذه المهارة العالية دون سابق ممارسة أو تراكم سنوات طويلة مِن التجربة!؟. وهذا ذكرني بما قاله الكاتب عبدالله باجبير عَن أوَّل تجربة لكاتبة صاعدة: «بداية مثيرة للإعجاب والدهشة والفرح.. أسلوب موجز وقوي، وقد اختارت الإيجاز القوي المعبر فِي أسلوب أقرب إِلى الشعر والحكمة ممّا دفعني إِلى الدهشة لأن هذا الّذِي كتبته هذه الكاتبة الصاعدة لا يصل إليه الكتَّاب إلاّ بعْد سنوات مِن التجارب الأسلوبيّة، فالإيجاز هُو أصعب فنّون الكتابة.. إنّه (الأساس) الّذِي تصنع منه عطور الكتابة.. وهُو الخميرة الّتي تنتشر فِي الدقيق.. وهو الماس الّذِي يخرج بعْد عناء طويل مِن أطنان الطين والصخر والتراب».
ولست أبالغ إذا قلت إن مَا جاء فِي مقِّدمة ريما للكتاب، لا يصدر إلاّ عَن قلم محترف حتَّى وإن كانت هذه أوَّل محاولة لها!.
استمتعت جدَّاً بقراءة الكتاب، وجعلتني محطّاته التسع والخمسين، ابتسم مرَّة، ويداهمني الحنين مرَّات ومرَّات، ويعتريني الألم والوجع وأنا أفكر بسنوات حكم معمّر القذّافي الّتي ساد فيها الظُّلم والقهر والعُدوان. وقد نجحت الكاتبة فِي تدوين ما عاشت وعايشت مِن أحداث مؤلمة وتحولات مفزعة ومرحلة صعبة مِن تاريخ ليبَيا دامت لمدة اثنين وأربعين عاماً، ومَا مرت به هي وأسرتها مِن آلام ومعاناة وتنقلات بين ديار الغربة، ثم اعتقال زوجها والإصابة بالخوف والقلق الشديد عليه، كذلك الخوف مِن تأثير توابع الاعتقال على حياة الأبناء ومُسْتقبلهم، خصوصاً وأنهم كانوا صغاراً فِي السن. ورغم أن الكتاب احتوى على الكثير مِن الأحداث المؤلمة الّتي قالت صاحبتها كم هو مؤلم تذكّرها، إلاّ أن النهايات كانت سعيدة، والتجربة كانت غنيّة وفريدة وناجحة، حيث نجحت فِي تحدي الصعاب بعزيمة وإصرار شديدين، وعرفت كيف تضيء الشموع حين يعمّ الظلام والحيرة، وتمكنت مِن التأقلم مع الغربة دعماً لزوجها ولإسعاد أسرتها. واجتازت محنة سنوات غياب زوجها فِي سجون الظلم والطغيان، وأوصلت أبناءها إِلى بر الأمان، وقد تكلل مشوار الأبناء بالتتويج الّذِي يسعد به أي أبوين، بعْد خروج والدهم من زنزانات الاعتِقال. ولذا أعتبر هذه «الرواية» تستحق النظر والاعتبار، وبمثابة الشمعة المضيئة أمام الأجيال الباحثة عَن شموع وقناديل!.
ذكرت محبوبة خليّفة عبر صفحات الكتاب الّتي بلغت مائتين وثمانيّ صفحات، مجموعة من المحطّات ومَا مرت به أسرتها مِن لحظات سعيدة ومغامرات وآلام وآهات!. أفردت مساحة لإسقاط إسرائيل طائرة الركاب المدنية التابعة للخطوط الجويّة الِلّيبيّة يوم 21 فبراير 1973م، الطائرة الّتي ضلت طريقها وانحرفت عَن مسارها بسبب العاصفة الرمليّة، فدخلت عَن طريق الخطأ فِي المجال الجوي لشبه جزيرة سيناء الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي وقتئذ، فانطلقت نيران القوَّات الإسرائيليّة على الطائرة مِن مسافة قريبة جدَّاً، فسقطت الطائرة محطمة، وأودى سقوطها بحيَاة مائة وثمانيّة أشخاص، مِن بين ركابها البالغ عددهم مائة وثلاثةَ عشر شخصاً. هز الخبر الصاعق المفجع والمؤلم جميع الِلّيبيّين، وأربك مدينة بّنْغازي الّتي كان معظم الضحايا مِن سكّانها وخيرة أبنائها، وكانت جميع بيوت المدينة ينتابها الحزن والغضب الشديد.
ذكرت الكاتبة أنها فقدت جنينها ذات الأربعة أشهر بسبب مَا انتابها مِن ألم وغضب وحزن بعد سماعها لخبر إسقاط الطائرة ومشاهدتها وصول الجثامين إِلى مدينة بّنْغازي، واصفة الحزن الّذِى خيَّم على المدينة ومَا أصاب النَّاس من جراء هذا المصاب الجلل والفقد العظيم، بعبارات قصيرة جدَّاً لكنها كانت معبرة جسدت الصورة بوضوح تام!!. وأشارت إِلى بعض أسماء الضحايا والتفاصيل الأخرى الّتي لا يرويها بهذه الدَّقة إلاّ شاهد عيان. وقالت فِي إحدى جزئيات سردها: «بكى النَّاس كلهم، وكان بيتي فِي بّنْغازي كأي بيت لّيبيّ (مناحـة).. وكان وصول الجثامين ينقل مباشرة عبر التلفزيون الِلّيبيّ».
وبعْد حادثة الطائرة، وقفت أمام خطاب العقيد معمّر القذّافي الّذِي ألقاه فِي مدينة زوارة فِي 15 أبريل 1973م، المعروف بـ«خطاب زوارة»، والّذِي تضمن خمس نقاط. كان أولاها إلغاء جميع القوانين، وثانيها تطهير ليبَيا من المرضى، أي أصحاب الفكر والرَّأي والمهتمين بالشأن العام. وشملت الاعتقالات العشرات، وكان مِن بينهم زوجها جمعة أحمَد عبدالله عتيقة.
اعتقل الزوج فِي العام 1973م، العَام الّذِي كان بداية التدهور والتضييق الّذِي وصل إِلى تطاير الرقاب، وكانت الزوجة الشابة ما زالت على عتبات بيت الزوجية ولم تكمل شهورها الثمانيّة. اعتقل المحامي جمعة عتيقة بعْد خطاب النقاط الخمس، وعانت الزوجة الشابة الأمرين نتيجة غيابه، ولكنها صبرت واحتسبت وداست على جراحها وأكملت السنة النهائيّة من دراستها الجامعيّة كمَا أوصاها زوجها قبل أن يأخذوه «زوار الفجر» إِلى المعتقل. وُضع زوجها بسجن «الكويفية» فِي بّنْغازي، وخرج في أواخر العام نفسه، فوجد زوجته قد نفذت وصيته ونالت ليسانس فلسفة بتقدير عام جيد.
تحدثت الكاتبة عَن مدينة «درنة» مسقط رأسها ومحل إقامة عائلتها.. ومدينة «بّنْغازي» الّتي درست بها الجامعة وكانت محل إقامتها فِي سنة زواجها الأولى.. ومدينة «طرابلس» الجميلة محل إقامتها. قالت عَن درنة الكثير والكثير.. مدينة «درنة» الحضارة والتاريخ، والشامخة بثقافتها وفنّونها وتراثها.. الجبل والبحر والشلال والوديان.. جناين الورد وأرض الزهــــر والحنـــة.
جابت بنا الكاتبة شوارع مدينة درنة وأزقتها وبياصاتها، و«البياصة» باللهجة الدرناوية أو الِلّيبيّة على وجه العموم، كلمة محرّفة عَن كلمة «لا بيازا / la piazza » الإيطاليّة الّتي تعني «الساحة» أو «الميدان». وتحدثت عَن بيوت درنة وعادات المدينة وتقاليدها وتراثها.. درنة رنة «نغمة» الدربوكة الخاصّ، ومعزوفة الزمارة المُزدوِجة «المقرونة»، والأشعار الّتي تتغنى بالوطن وبسحر الطبيعة وجمال البحر والأشجار والجبال.
ظهر حنين الكاتبة إِلى درنة بشكل لافت، حينما كانت فِي بيت الطالبات بمدينة بّنْغازي أثناء دراستها الجامعيّة، حيث اشتاقت إِلى المائدة الدرناويّة العامرة بِكُلِّ أصناف الطعام، وإِلى التحبيشات الخاصّة بأهل درنة، من زعتر وبردقوش وإكليل ونعناع.. قرنفل وماء الزهـر والورد. ووقتما دخل شهر رمضان الكريم، كان اشتياقها وشوقها إِلى مائدة تمتد هُناك فِي بيت أهلها فِي درنة، لطبق «الابراك» أو مَا يعرف عند غيرنا بـ«الدولمة أو ملفوف ورق العنب أو الكرنب»، كذلك ملفوف ما يسميه الِلّيبيّون بـ«ورق السلك». الطبق الّذِي اسمته بـ«الطبق الغالي»، فقالت: «فِي رمضان الكريم.. تجددت أشواقنا لمائدة تمتد هُناك فِي بيوتنا الدرناويّة وعليها «الابراك» الطبق الغالي الّذِي يتواجد بصورة شبه يومية تقريباً فِي شهر رمضان الكريـم».
وتحدثت عَن مدينة «بّنْغازي» معالمها وخصائل أهلها وناسها الرَّائعين.. مناطقها وأحيائها وميادينها وشوارعها بوسط المدينة.. بيوتها ومقاهيها وأسواقها الممتلئة بالبضائع والمعروضات والمنتجات وأحدث صيحات الموضة مِن الملابس قبل أن يلغي عساكر الانقلاب القطاع الخاص ويصادروا الممتلكات ويضعوا التجارة تحت سيطرة الدولة.. بحرها المتموج وحدائقها قبل أن يعبث بها حذاء الانقلابيين.. ملاعـبها ومقابرها بما فيها مقابر جنود الحلفاء الّذِين قُتلوا فِي المعارك الّتي جرت فِي بّنْغازي إبّان الحرب العالميّة الثّانيّة.
تحدثت عَن بّنْغازي الّتي كانت متميزة بنشاطها الثقافي فِي الجامعة وصالات أنديتها الرياضيّة، وتعج بالمكتبات والأكشاك الّتي كانت تموجٌ بالطلبة بصورة يومية لشراء الجرائد الِلّيبيّة والعربيّة والأجنبيّة، وجريدة «الحقيقة» الِلّيبيّة على وجه الخصوص برئاسة الصحفي المخضرم رشاد الهوني، والّتي تألقت أسماء كبيرة فِي سمائها كالصّادِق النيهوم، أنيس السنفاز، خليفة الفاخري، محمّد أحمَد وريث، حسين مخلوف، سالم عبدالنبي قنيبر، أحمَد إبراهيم الفقيه، أمين مازن، أبوبكر الهوني، حميدة البراني، سالمة الفاخري، علي فهمي خشيم، محمّد علي الشويهدي، عبدالرازق بوخيط، والصحفي والكاتب اللبناني المعروف سمير عطا الله… وغيرهم.
وأفردت بعض صفحات عَن الحيَاة فِي بيت الطالبات، وتحدثت عَن كيف كان الإسكان الجامعي أحد العوامل الرئيسيّة المؤثرة إيجابياً فِي حيَاة الطالب الجامعي. وكيف حرصت الجامعة فِي ذلك الوقت على توفير المبنى السكني المناسب، وتكليف الإدارة المميزة والمؤهلة لتسيير شؤون المرفق الطلاّبيّ، وتهيئة الجو المناسب للطلاب مِن أجل الرقي بهم إِلى أعلى مستوى فِي التحصيل العلمي والدراسي. ثمَّ خصصت وقفة مطولة عَن حياتها داخل بيت الطالبات، ورسمت صورة متكاملة عَن جَمال المَبْنَى ودقّة التنظيم داخله، مشيرة إِلى ذوق الأثاث الرفيع، كذلك أناقة المدخل والحديقة المحيطة بالمبنى.
وتحدثت عَن الحياة الجامعيّة، حيَاة الطلاب داخل الجامعة، داخل وخارج قاعات المحاضرات.. أساتذة الجامعة الّذِين كانوا مِن القامات الأكاديمية والتربويّة الكبيرة فِي العالم العربي، وطريقة تفاعل الطلبة مع أساتذتهم وعلاقتهم بهم.. كيف كان تأثير المناخ الجامعي على مسألتي التحصيل والبحث العلمي، والدفع نحـو التحسين والتطوير، والتطلّع بتفاؤل إِلى مُسْتقبل مُشرق. الجامعة الِلّيبيّة الّتي تأسست بمرسوم ملكي صدر فِي العَام 1955م، فِي مدينة بّنْغازي، وكان مقرها وسط المدينة بـ«قصر المنار». القصر الّذِي أهداه المَلِك إدْريْس السّنٌوسي لأبنائه الطلبة ليكون أوَّل مقر للجامعة، لتبدأ الدراسة فيه ابتداءً مِن يوم 15 ديسمبر 1955م، وتفتتح الجامعة رسميّاً يوم 23 يناير 1956م فِي حفل مهيب حضره رئيس الوزراء مُصْطفى أحمَد بِن حليم، وألقى كلمة الافتتاح عبدالسّلام بسيكري وزير المعارف «التعليــم». الجامعة الّتي كانت فيها واحدة من أفضل المكتبات فِي البلدان العربيّة، حيث وصل عدد الكتب في المكتبة الجامعيّة، قبل استيلاء القذّافي على السّلطة في العَام 1969م، إلى أكثر من خمسة عشر ألف كتابِ في العلوم الإنسانيّة. ووصل عدد الكتب فِي العَام 1973م إلى حوالي ثلاثين ألفاً حينما طرد الانقلابيّون مِن الجامعة الِلّيبيّة، الفيلسوف المصري الدّكتور عبدالرَّحمن بدوي أشهر أساتذة الجامعة الِلّيبيّة وقتئذ، وأحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب فِي القرن العشرين وأغزرهم إنتاجاً، والّذِي كان قد كلّفه الرَّاحل عبدالمولى دغمان مدير الجامعة الليبيّة قبل الانقلاب بتطوير المكتبة الجامعيّة، ومنحه كافة الإمكانيّات والصلاحيّات الّتي تؤهله القيام بهذه المهمّة. وقد استطاع بدوي -وفقاً لما جاء فِي كتابه: سّيرة حياتي- أن يجعل مكتبة الجامعة الِلّيبيّة -وفِي فترة وجيزة جدَّاً- تتصدر قائمة أفضل المكتبات في الجامعات العربيّة، وتنتقل من حوالي خمسة آلاف كتاب فِي العلوم الإنسانيّة إِلى حوالي ثلاثين ألفاً لما غادر ليبَيا فِي مايو 1973م، بعْد أن اعتقل ضمن المجموعة الّتي اعتقلت عقب خطاب القذّافي فِي مدينة زوارة فِي 15 أبريل 1973م، تحت عنوان وشعار «الثورة الثقافيّة».
كان العلم والمعرفة على رأس اهتمامات الدولة الِلّيبيّة وأولويّات سياساتها إبّان حكم المَلِك إدْريْس السّنٌوسي، وكانت هُناك مكتبات منتشرة فِي كل مكان إِلى جانب مكتبة الجامعة الفخمة والغنية. وقالت الأستاذة محبـوبة فِي روايتها عَن هذه الجزئيّة: «كانت بّنْغازي الحضن والموئل ومركز العلم والمعرفة، حيث المكتبات الأربع الكبرى بين جنباتها وعلى مرمى حجرٍ مِن مبنى الجامعة، فبالإضافة إِلى مكتبة الجامعة الِلّيبيّة، يقع على الجهة المقابلة للجامعة – ولا يفصلنا عنه إلاّ عبور الطريق– المركز الثقافي الأمريكي المبنى الأنيق، صاحب الصالة الكبيرة الجميلة المفروشة بسجاد أزرق ومحاطة من جهاتها الأربع بأرففٍ تحوي كنوزاً من الكتب لا حصر لها ولا قيود فِي استخدامها ومطالعة محتوياتها.. المركز الثقافي المصري الّذِي كان منافساً للمركز الثقافي الأمريكي والبريطاني فِي مجال يحبّه الطلبة وهُو عرض الأفلام المصريّة، وإلقاء المحاضرات مِن ضيوف المركز متنوعي المشارب والاتجاهات. هكذا كان محيط جامعتنا.. أينما ولّينا وجوهنا رأينا مَنْ ينادي أن تعلموا وتثقفوا وأعدُّوا العدة لمُسْتقبلٍ كنَّا نراه مقبلاً وزاهراً..».
وصلت بعْد بّنْغازي إِلى مدينة طرابلس، فِي سرد سلس وتتابع مُتقن، وأسلوب رسم ملامح المكان وكأنه عدسة الكاميرا. تحدثت عَن طرابلس الّتي تعرفت عليها بعدما انتقلت إليها مع زوجها الّذِي قرر ترك وظيفته فِي بّنْغازي كـ«وكيل نيابة» وتغيير موقعـه إِلى مجال المحاماة ليدافع عَن قضايا النَّاس. قرر زوجها الاستقرار فِي منطقته، ودائرة معارفه وعلاقاته الأوسع، ومكان وجود أشقائه المعروفين فِي مدينة طرابلس الكبيرة الجميلة. طرابلس عروس البحر، المدينة الموغلة فِي القدم.. المدينة الّتي مرَّت عليها حضارات كثيرة، ومرَّ عليها كثيرون محبّون وغزاة، أو كمَا قالت: «كلهم مرَّوا مِن هُنا، منهم مَنْ عمّرها وترك شواهد تدلُّ عليه ومنهم مَنْ جاء بمعاوله يهدم ويشوّه ويغيّر ويُسمّي بغيرها.. ومنهم مَنْ أتعبها ومنهم مَنْ عرف قدرها ومنهم مَنْ حاول أن يؤذيها ومَا استطاع».
تغيّر حال طرابلس الّتي نالت فِي زمن المملكة أجمل وأنظف مدينة فِي حوض البحر المتوسط، وصارت شوارعها بائسة ولحقها التشويه والإهمال، وامتلأتْ سَماؤها بالسحب السوداء القاتمة بعدما حشر الانقلابيون أنفهم فِي كلِّ شيء يخصها ويخص المواطنين. وتلبدت سماؤها بِشكلِ واضح بعْد حملة الاعتقالات الواسعة والتضييق على النَّاس وحرمان بعضهم مِن أرزاقهم أو نزعها منهم، عقب مَا عُرف بـ«محاولة انقلاب عُمر المحيشي» فِي العَام 1975م. اهتم المحامي جمعة عتيقة بقضية الّذِين اتهموا بالمشاركة فِي محاولة المحيشي، وانشغل بالدَّفاع عَن عددٍ كبيرٍ منهم. صدرت أحكام ابتدائيّة فِي نهاية العَام 1976م، لم تعجب معمّر القذّافي، فالتفّ عليها وحولها فِي الاستئناف إِلى أحكام نصّت على إعدام معظمهم وبراءة سبعة منهم. نفذت الأحكام الجائرة على وجه السرعة، وبأيدي أصدقاء المتهمين مِن العسكريين، وبأمر مِن الحاكم آنذاك. ثمّ زادت كثافة السحب السوداء بالمحاكمات الّتي جرت فِي بدايات العَام 1977م لمجموعة من الطلاب والمثقفين والحزبيين، والّتي انتهت بإعدام المعلمين والطالبين المنتسبين للجامعة عُمر علي دبـّوب ومحمّد الطيّب بِن سعود، شنقاً يوم الخميس الموافق 7 أبريل 1977م فِي «ميدان الكاتدرائيّة» بمدينة بّنْغازي، وإعدام الفنّان عُمر المخزومي، والمواطن المصري أحمَد فؤاد فتح الله، شنقاً فِي نفس اليوم والتوقيت، بميناء بَنْغازي.
أصبحت البلاد عقب هذه الإعدامات العلنيّة، عبارة عَن جحيم لا يطاق، وصار المواطن يعيش حالة مِن الخوف والرعب والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة الّتي تنبئ بالأسوأ، وغدا البطش سافراً والقمع للحريّات ظاهراً ضدَّ أية مُعارضة حتَّى لو كانت لفظية!!. هُنا، قرر جمعة عتيقة مغادرة البلاد مهاجراً إِلى «روما» ليهيئ لأسرته مكاناً للإقامة، فوصلته أسرته بحدود نهايّة مايو 1977م.
انخرط جمعة عتيقة فِي برنامج الدراسات العليا للحصول على درجة الدكتوراة مِن إيطاليا، وتواصل مع القوى الوطنيّة فِي الخارج، وكان مِن الأوائل الّذِين شكلوا فصائل المُعارضة الِلّيبيّة فِي الخارج، والّتي تأسست فِي أواخر السبعينات وبداية ثمانينات القرن المنصرم. أعلن معمّر القذّافي عَن البدء فِي حملات لتصفية معارضيه فِي الداخل وملاحقتهم خارج الوطن، وأرسل فرق لّجانه الثّوريّة لتصفية المُعارضين فِي عواصم ومدن العالم المختلفة. بدأت عمليّات التصفية باغتيال محمّد الرتيمي فِي روما فِي شهر مارس 1980م، ثمّ الصحفي والإذاعي محمّد مُصْطفى رمضان فِي لندن يوم 11 أبريل 1980م أمام مسجد لندن بعْد أدائه لشعائر صلاة الجمعة، تواصلت تلك الاغتيالات وشملت مَا يقارب مِن ثلاثين شخصاً وكان آخرها العملية الّتي نفذتها العناصر الإرهابيّة فِي لندن يوم 26 نوفمبر 1995م، وكان ضحيتها المعارض علي أبوزيد. ويُذكر أن إيطاليا وحدها شهدت خلال ثلاثة أشهر فقط من النَّصف الأوَّل مِن العَام 1980م خمس عمليّات اغتيال، بدأت برجل الأعمال محَمّد سالم الرتيمي فِي روما العاصمة الإيطاليّة يوم 21 مارس 1980م، ثمَّ رجل الأعمال عبْدالجليل عارف فِي روما يوم 19 أبريل 1980م، وبعده رجل الأعمال عبْدالله محَمّد الخازمي فِي روما يوم 8 مايو 1980م، ويليه رجل الأعمال محمّد فؤاد أبوحجر فِي روما يوم 20 مايو 1980م، ثمَّ رجل الأعمال عزالدَّين الحضيري في مدينة ميلانو يوم 11 يونيو 1980م.
ذكرت الكاتبة فِي روايتها عَن هذه الأخبار المفزعة والأحداث المؤلمة، مَا يلي: «خبر مخيف وحزين تقرأه مديحة رشيد المدفعي كبيرة مذيعات إذاعة الـ بي بي سي (BBC) العربيّة، وتعلن مِن خلال دموعها اغتيال الإذاعي الِلّيبيّ الكبير محمّد مُصْطفى رمضان الّذِي مَا مرَّ على تلك الإذاعة صوت يشبه صوته ولا شخصيّة كاريزمية كشخصيته.
ومَا أن أفقنا مِن الصدمة، حتَّى أُعلن عَن العثور على جثّة رجل الأعمال محَمّد الرتيمي، منتفخة ومتعفنة فِي صندوق سيارته بعْد اختفائه من محل سكنه بأسبوعين. وتوالت الأحداث، فقتل فؤاد أبوحجر، عبدالله محمّد الخازمي، عزالدين الحضيري، ووصلت اليدُ الآثمة لرجل الأعمال عبْدالجليل عارف، وكان جالساً مع أسرته وشقيقته وابنته وخطيبها، حيث وقف القاتل يصيح باسم الفاتح ويُفرغ رصاص مسدسه فِي رأس الرجل وسط أسرته ليسقط مضرّجاً بدمائه فِي أشهر مقاهي روما بشارعها المعروف (Via Veneto).
وصلتنا الأخبار المزعجة، الشديدة الخطورة، وينطلق جمعـة لبيت المغدور به السّيِّد عبدالجليل عارف ويقف بجانب أسرته مواسياً ومعزياً ومسانداً وهُو يعلم أن اسمه بين القوائم الّتي أرسلت مِن سفارتنا بروما إِلى طرابلس ليجهزوا المنفّذين – أبناء جلدتنا ووطننا – ويطلقونهم فِي شوارع روما وأثينا ولندن كمَا أشار زعيمهم فِي تهديده الشهير».
قرر جمعة أن ينتقل بأسرته إِلى المملكة المغربيّة الّتي كان يحكمها المَلِك الرَّاحل الحسن الثاني، المملكة الّتي كانت علاقاتها مقطوعة مع نظام سبتمبر بحكم تدخلات القذّافي فِي قضيّة الصحراء الغربيّة ووقوفه ودعمه اللا محدود لمُنظمة البوليساريو، وبحكم تسهيل المغرب سبل الإقامة أمام الِلّيبيّين المُعارضين، علاوة على أن القذّافي لم يضرب بعْد فِي الدول العربيّة، بينما كان يضرب بشكل جنوني فِي دول أوروبا، ودون أي رد فعل رادع مِن تلك الدول آنذاك!!.
كانت الحيَاة فِي المملكة المغربيّة، وفِي الرباط تحديداً، جميلة وهادئة ويشعر الواحد فيها بالمتعة الحقيقيّة وجمال الطبيعة وعمق الحيَاة بِالقربِ مِن النَّاس، وذلك بحكم وداعة المغاربة وسماحة طباعهم وقدرتهم على تقبّل الآخر مقيماً بينهم أو زائراً.
سارت الحيَاة بشكلٍ سلس فِي المملكة المغربيّة، ومَا عكَّر صَفْوَها بعْد سنوات إلاّ زيارة أحد أساطين مخابرات نظام القذّافي للرباط، والتي ترتب عليها فيما بعْد، عقد صفقة بين البلدين جاءت على حساب اللاجئين الِلّيبيّين فِي المملكة، وذلك بعْد زيارة معمّر القذّافي الشهيرة إِلى مدينة وجدة المغربيّة، ولقائه فِي العَام 1984م بالمَلِك الحسن الثاني، وتوقيع اتفاق تعاون مشترك بين البلدين، سلمت المغرب بموجبه كافة المعلومات الّتي بحوزتها عَن المُعارضين الِلّيبيّين إِلى نظام القذّافي، وأنهت وجود اللاجئين الِلّيبيّين «المُعارضين» المقيمين فوق أراضيها، بل سلمت بعضهم إِلى جماهيريّة القذّافي، وفِي مقدمتهم: عُمر المحيشي ونوري الفلاح والفنّان محمّد السليني.
شعر جمعة بأن البقاء فِي الرباط لم يعد ممكناً وعليه أن يرحل قبل أن يُغدر به، منذ زيارة أحد أساطين مخابرات نظام القذّافي للرباط، ووافق على اقتراح شقيقه الدّكتور علي عتيقة بالعودة إِلى روما لإتمام رسالة الدكتوراة الّتي كان على وشك إتمامها قبل موجه الاغتيالات الّتي استهدفت اللاجئين الِلّيبيّين فِي دول أوروبا فِي العَام 1980م.
غادرت الأسرة إِلى روما، وأتمم جمعة دراسته فِي مدة قصيرة جدَّاَ ونال درجة الدكتوراة فِي العلوم الجنائيّة مِن جامعة روما. وأمن له الدّكتور سعدون حمادي نائب رئيس وزراء العراق، والّذِي كان لاجئاً سياسياً فِي ليبَيا فِي مرحلة معينة مِن حياته، وصديقاً مقرباً لشقيقه الدّكتور علي، وظيفةً محترمة فِي العراق وعملاً كمحاضر وباحث فِي مركز البحوث القانونيّة فِي بغداد.
وصلت الأسرة إِلى بغداد صاحبة السور القديم الّذِي بُنِي قديماً لأغراض دفاعيّة، وذات الأبواب الأربعة أو المداخل الرئيسيّة الأربعة، والمدينة الجميلة الموغلة فِي القدم الّتي توجد بها مدينة أثريّة تقع في الجزء الشماليّ الغربيّ مِن بغداد. بغداد التاريخ والفن والجمال، والّتي كانت السّياسة كثيراً مَا تجلب لقاطنيها ولكلِّ العراقيين الكوارث والحروب، وتقلق مضاجعهم.. بغداد المدرسة المُستنصِريّة والمدرسة المرجانيّة والقصر العبّاسي الّذِي بُنِي فِي عهد الخليفة الناصر لدين الله، والواقع حاليّاً على بُعد مسافة قريبة مِن باب المُعظّم جهة النهر.
بغداد الّتي كانت تعيش حالة حرب وقتما وصلتها الكاتبة وأسرتها، الحرب الّتي عرفت بين العراق وإيران، إحدى أطول المعارك فِي القرن العشرين، وسقط بها نحو مليون قتيل مِن الجانبين. بغداد الدموع والأوجاع والآلام، والحرب الّتي كانت تحصد فِي أرواح خيرة الشباب، إلاّ أنَّ العراقيين كانوا يمضون بحياتهم بشكل اعتيادي، ومقبلون على الحياة، ويعيشون الأمل والحلم.
وفِي العَام 1988م، قرر أب الأسرة العودة إِلى ليبَيا، بعد ظهور مؤشرات تؤكد على تقارب قادم بين نظامي صدام حسين ومعمّر القذّافي فِي المدى المنظور، وبعْد خطاب القذّافي فِي 2 مارس 1988م الّذِي عُرف بـ«أصبح الصبح» في مارس 1988م، يوم أخرج معمّر القذّافي عدداً مِن السجناء السياسيين مِن السجون والمعتقلات، ودعا المعارضين فِي الخارج بالعودة إِلى البلاد، مع ضمانات لسلامتهم بعْد العودة، وقام بتمزيق قوائم الممنوعين مِن السفر، وأرجع بعض جوازات السفر المسحوبة من أصحابها إِلى أصحابها، وهدم مدخل سجن «أبي سليم» الواقع بالقرب من مدينة طرابلس.
عاد جمعة عتيقة إِلى طرابلس أولاً ثمَّ لحقته أسرته، وفِي غضون أقل مِن عامين اعتقل العائد ليظل فِي السجن مدة دامت سبع سنين وستة عشر يوماً بالتمام والكمال، مِن 31 مارس 1990م إِلى 16 أبريل 1997م.
أخيراً، استعرضت الكاتبة مرحلة صعبة مِن تاريخ ليبَيا ومَا مرت به أسرتها مِن مآسٍ وآلام تحت نظام قمعي حكم البلاد اثنين وأربعين عاماً، إِلى أن وصلت البلاد لحظة التغيير الّتي انتظرها النَّاس طويلاً، ووجدت نفسها تحمل علم دولة الاستقلال الّذِي غيبته الدّكتاتوريّة أربعة عقود مِن الزمان، ومعها ابنتها وحفيدتها، تجوب شوارع طرابلس المختلفة محتفلة مع النَّاس بالتغيير الّذِي حدث، وأرادوا منه خيراً كثيراً، ولكن المتربصين كان لهم رأي آخر، فأفسدوا الفرحة الغامرة والّتي يأمل المخلصون –اليوم– أن تعود، لكي يصبح الوطن الِلّيبيّ داراً دافئة حقوقياً ومصانة الكرامة فيه، وشامخاً ناهضاً مزدهراً كمَا حلم به أبناؤه المتيمون بحبّه زمناً طويلاً.