تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
- سعاد سالم
هل تبدو لغوة مفردة غريبة ؟ للبعض بالتأكيد ،لكنها لبعضنا كلمة مألوفة وتستدرجني شخصيا للذكريات ، ولكن لغوة كمفردة ودلالة هى في الحقيقة أكبر وأعمق من ذلك بكثير ،وحسبما أتصور هى بصمة المجتمع ،ومسح أركولجي أو أثري للغة محلية لطالما غذتني وأغنت مداركي ،وذلك لشدة التصاقي بعالم حنّاي بما فيه من لغة وعادات وطعام ومرح وخرّافات وناس.
خَلْتي مريم
لغوتنا هكذا نطقتها بغاية الدقة والوضوح ، كنت مع أمي وكل الجيران في سهّرية عرس بنتها فتحية ، وكانت خلّتي مريم تتحدث إلى الجالسات حولها ، لا أتذكر عن ماذا دار الحديث وقتها ولكن مفردة لغوتنا التي سمعتها رنت في أذني بطريقة خاصة وعلقت في رأس تلك الطفلة التي كنتها ، هل حدث وأن سمعتم كلمة عادية وتعرفونها جيدا ثم نطقها شخص بعينه فصارت لامعة ،أو كنزا أو حتى صوت جرس ناعم في رقبة قطة؟ ربما لأن حياة خلتي مريم مرت عمي علي ، كانت عالية وفخمة بسمرتها شديدة الدُكنة ، وبترشيقتها في الحولي بجسدها المكتنز ،ولغوتها الطرابلسية الملحنة وأناقة بيتها ومناسابتها ،كانت سلطانة شارعنا القديم ومعلم حداثة ومتحف بالغ الأهمية يؤرخ فترة السبعينات بما فيها من رفاهية ورسوخ للقيمة المعرفية للغوة في آن. .
بو ارقبة : ايش؟
في شط الحرية هذه الدراما البديعة ،بدا بو ارقبة وعلى الدوام برغم كونه شيخ النجع لايفهم تعبيرات الفقي زيدان في اشارة لعدم الكفاءة المعرفية للشخصية غير أنه ومن زاوية أخرى ،يمكنني رؤية ايش ؟ النامة عن تواضع معرفي بإنها أيضا تدل على وجود بديل معرفي آخر لايقل أهمية يترفع على استخدامه الفقي زيدان .
تأملوا هذه الأجزاء من الحوارات :
الفقي زيدان : وإنه لعَمري عملٌ يندى له الجبين
*الشيخ بو ارقبة: ايش؟
الفقي زيدان : جيريمة هضي .
*الفقي زيدان: لم لا نخوض هذه التجربة
الشيخ بو ارقبة: ايش
الفقي زيدان: يارا ماخاسريله شيء ،خلينا نجرّبوا
الفقي زيدان : ومالذي يشغلُ عقلك ؟
الشيخ بو ارقبة : ايش؟
الفقي زيدان : وانت ايش في عقلك يا را
هل لك الحق في أن تراها تعبيرات بسيطة ؟ نعم ،غير أن هذه اللمحة البسيطة والمبالغة كسمة أصيلة في الأعمال الكوميدية اشتملت على كل الاحتمالات ،كأن مثلا يقوله تكلّم زيّنا ، كأنه يقوله : تواضع ياصحّار.
لغوة الروترادميون (روتردامس)
هل أجيد الهولندية ؟ نعم ، هل أجيد اللغوة الهولندية ؟ أو لغوة روتردام ؟ لا ، كيف قلت بسملّه .لأنه في الشقة رقم 50 و جاري المسن يندمج في رواية حدث ما بلغوته الروتردامية ،أصبح الشيخ بو ارقبة واستوقفه ، شنو؟ فيعيد العبارة بكلمات من اللغة الهولندية ، أي مايحدث معي هو العكس تماما ، فاللغة التي نتعلمها في المدرسة تبدو كأنها لغة الفقي زيدان ، ولكن عمي ياكوب تعليمه متواضع أمّا لغوته فهى أكثر لمعانا ومتانة من معلم اللغة في مدرسة زاد كين ،
اللغوة أو اللغة الخاصة بمنطقة ما ، من وجهة نظري هي هوية سكان تلك المنطقة لأنها منتجهم ، ودلالاتها ستعتصي على من لم يكن منهم ، ويمكن بسهولة ملاحظة أن للبحر لغة وللصحراء لغة وللجبال وللمدن وللريف وهكذا ، ولأنني مغرمة باللغة واللغوة يستمر عمي ياكوب في رمي التعبيرات الروتردامية كلغز يطلب مني حلّه ، أحيانا يتوقف من نفسه في منتصف حديث ويعيد المفردة وينطر إليَّ بعيون لامعة قائلا: هذه إيخت روتردامس ها، ويعني كلمة روتردامية خالصة ، زي لما نقولوا : كلمة اطرابلسية مثلا.
شيء من لغوتنا
تابعت لقاءا على التلفاز بين محاور وطبيب ، وشدني أن الضيف كان يسخر من مفردة (بالروحين) ،وهى كانت المفردة المحلية للتعبير (حامل) ، وأذكر تماما ماقاله وكأنه لايأتي من زمن بعيد جدا ، قال: شوف التخلف يتصوروا أن على السيدة الحامل أن تأكل لشخصين .
ذلك الصوت الساخر والتفسير السطحي لم أتمكن من مسامحته ، كنت وقتها أرفض الهجوم على لغة حنّاي ولغة خلتي خدوجة وخلتي خيرية ،وطبعا خلتي مريم ،ماذا تقول ياعمي الطبيب ؟ لغوتهن لايمكن أن تكون خاطئة ،فضلا عن أن تكون دلالاتها محل شك .
لطالما رأيت في الإشارة إلى روحين للتعبير عن الحمل عمق دلالة ،و الكثير من التوقير والتعاطف ، بل وأكثر دراية علمية بهذه العلاقة الأكبر تعقيدا وتماسكا من الإشارة إليها بالحمل ، فالروحين مربوطين فعليا بمهمة الإبقاء على حياتين في مهمة اعتمادية بشكل تام على خلاياها وعروقها ، و تأملوا وصفهن الولادة : شنّ يخلّّص روح من روح ، الآن يمكن فهم عمق التعبير (بالروحين ) حينما نحدق في صورة تشريحية للجنين في بطن أمه ، ثم أنه تعبير يركّز عليهما معا ،فيما مفردة الحمل تركز على الجنين فقط، مظهرا الأم في مهمة عادية ،مثل مهمة حامل الراية ، أو حامل الكبّوط خلف الباب.
نستولوجيا لغوية
لا أقصد بهذا التركيز أن نكون ببغاء لمفردات جعلتها لغة المدرسة تندثر،وظهور لغة ثالثة توصف بالبيضاء ، حينما واصل تفكيكها برنامج قل ولا تقل ،و انهكها التعريب ، ولكن في الحقيقة رغبت أن نشاهد تلك المرحلة من الحياة الاجتماعية وكأنها صورة فوتوغرافية أكثر وضوحا لملامح المجتمع الليبي ،لأنها انتجت الكثير من الكلمات اللطيفة والمتفهمة والمهذبة و الحكيمة والثمينة والكريمة والحنونة والمبالية والأخلاقية ، لغة اهتمت بالواقع وعالجت تعقيداته بالتسامح والغض وتجنب اطلاق الأحكام ، لم تكن اللغة القديمة خالية من الاشكاليات ،لكنها على مستوى التربية كانت أكبر قيمة وأعظم اتزانا ومسئولية أخلاقية ، لهذا أحب قيمة االلغوة وقيمة الفصحى وليس استعمالها كميراث للتباهي أو ألة زمن نحو عهد الفتوحات. ترديد المفردات مع اهمال القيمة التي انتجتها مش حيكون إلا صندوق حنّاك فوقه لاب توب أو مجرد إزارٍ وتقرطيس للمليحةِ في الخمارِ الأسودِ.
إنريد لوغة ؟ نعم ، فمن مهمتنا انتاجها أيها الشاعر الكبير محمد الدنقلي .