بقلم :: موسى الاشخم
شهدت ليبيا منذ أن غادرتها الأساطيل العثمانية إلى اليوم أنماطاً من الحكم، تراوحت بين سطوة الفرد، وسطوة النخب، وسطوة الشعب، أو شهدت مزيجاً أو توليفة من تلك السطوات. ويمكننا تقسيم تلك الفترة إلى أربع مراحل: تبدأ الأولى منذ الشروع الإيطالي في غزو ليبيا، وحتى السيطرة الإيطالية الكاملة على البلاد. وتبدأ الثانية من السيطرة الإيطالية الكاملة على البلاد، وحتى الإطاحة بالنظام الملكي عام 1969م. وتبدأ الثالثة من الإطاحة بإدريس السنوسي، وحتى الإطاحة بالقذافي. وتبدأ الرابعة من الإطاحة بالقذافي وحتى اليوم. وشهدت البلاد في المرحلة الأولى اشكالاً من الحكم تعايش فيها نمطان من الأنماط الثلاثة المذكورة؛ إذ شهدت المنطقة الشرقية قيادة فردية تمحورت حول شخصيتين رئيسيتين:
كانت الشخصية الأولى أحمد الشريف السنوسي، وكانت الثانية عمر المختار المنفي. وفي الحالتين كانت هناك مشاركة محدودة من النخب المتمثلة في شيوخ القبائل وأعيان المنطقة الشرقية. بينما شهدت المنطقة الغربية سطوة النخب المتمثلة في شيوخ القبائل والأعيان، الذين كانت سطوتهم تستند إلى حيازة المال، والتعاون مع الحكومات الأجنبية، وفي حدود ضيقة إلى مهارات القول. والنمطان وفّقا إلى هذه الدرجة أو تلك في قيادة البلاد، وقيادة معارك الجهاد ضد الغزو الإيطالي، منذ دخول الطليان إلى ليبيا وحتى الحرب العالمية الأولى. التي أدى مشاركة الإيطالين فيها إلى تشتت جهدهم القتالي، وتعرضهم إلى هزائم قاسية على يد المجاهدين الليبيين، الأمر الذي أدى إلى انحسار حضورهم العسكري، واقتصاره على شريط ساحلي ضيق، لا يتجاوز عرضه خمسة عشر كيلومتراً على أحسن الفروض. مع خسارتهم لجزء كبير من الساحل يبدأ من خليج سرت وينتهي عند مشارف مدينة الخمس. غير أنّه ما أن شعرت تلك النخب المسيطرة على المنطقة الغربية بنشوة النصر على الجنود الطليان، وأنّهم صاروا قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال عن إيطاليا، حتى ورطت تلك النخب الليبيين في فوضى وحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، في إطار محاولة كل طرف الاستحواذ على السلطة، وتأكيد سطوته على الأطراف الأخرى. وانتجت سطوة النخب فوضى عارمة، أتاحت للإيطاليين الفرصة السانحة لإدارتها وإذكائها على النحو الذي أعاد ليبيا عموماً، والمنطقة الغربية خصوصاً إلى السيطرة الإيطالية الكاملة. وهو ما أذاق الليبيين ويلات التهجير، والنزوح، والاعتقال، والاختطاف، وألبسهم لباس الجوع والخوف. الأمر الذي صار فيه الخضوع إلى السلطات الإيطالية حلماً للمروعين من بني جلدتهم، دون أن يعني ذلك التماسنا العذر لهم. وشهدت البلاد في بدايات المرحلة الثانية خلال حكم الطليان المزاوجة بين سطوة الفرد ” الحاكم الإيطالي” وسطوة النخب “شيوخ القبائل والأعيان”.
كذلك استمرت المزاوجة بين سطوة الفرد وسطوة النخب، خلال الفترة التي تلت اعتراف القوى الكبرى باستقلال ليبيا، وتنصيبها إدريس السنوسي ملكا عليها، إذ حكم إدريس ليبيا بالاستعانة بالنخب المستحوذة على المال والجاه في مناطقها وقبائلها؛ حيث عمد الملك إدريس – استناداً إلى المشورة البريطانية على الأرجح – إلى إشراك العائلات النافذة والمسيطرة على المال والجاه والقول خلال الحقبتين العثمانية والإيطالية، والتي كانت ممثلة بشيوخ القبائل والأعيان. ومن هناك يمكننا القول بأن ليبيا انتقلت من سطوة الفرد في المناطق الشرقية، وسطوة النخب في المنطقة الغربية إبان مقاومة الطليان، إلى المزاوجة بين سطوتي الفرد والنخب في كامل أرجاء ليبيا خلال حكم الطليان، وحكم الملك إدريس السنوسي على السواء.
وما أن أطيح بالملك إدريس السنوسي في العام 1969م، حتى فقدت النخب المسيطرة على المال والجاه والقول سطوتها أو حتى مجرد المشاركة في الحكم، وهو ما جعلها تزداد حنقاً على النظام السابق يوماً بعد يوم، وظهرت صيغة جديدة للحكم تتمثل في المزاوجة بين سطوة الفرد وسطوة الشعب. ومورس ذلك على شاكلتين: كانت الأولى على الطريقة الناصرية؛ إذ يحتفظ الحاكم فيها بقنوات اتصال مع العامة، ويتحسس مطالبهم وأحلامهم، فيعبر عنها، ويحولها إلى خطط وقرارات وقوانين. ومورست الثانية من خلال تنفيذ جل قرارات المؤتمرات الشعبية الأداة التشريعية في ظل الجماهيرية. وازداد حنق النخب المستحوذة على المال والجاه والقول بعد أن أعلن القذافي عن التنظيرات الجماهيرية التي لا تعطي للنخب دوراً يذكر، وتساوي بينها وبين الشعب، في حين تعودت النخب في النظم السائدة أن تعامل من قبل الحاكم معاملة الزوجة الجديدة والشابة، لا معاملة أم الأولاد أو الزوجة القديمة، أو بتعبير أخر تعودت على معاملة العشيقة لا الزوجة، وتتصف بالغيرة الشديدة تجاه الشعب، وعلى نحو خاص أولئك الذين لا يمتلكون سوى جهدهم،وتستنكف أن تتساوى بهم في المعاملة! واستناداً إلى ذلك اعتبرت النخب سواءً تلك المسيطرة على المال والجاه، أو المسيطرة على القول “النخبة المثقفة” مساواتها بالشعب إهانة شديدة لا تطاق الحقت بها خلال الحقبة الجماهيرية. وهذه المساواة اعتبرتها النخب ليس في ليبيا فحسب، بل وخارج ليبيا نوعاً من الجنون، وهو ما عبر عنه الرئيس المصري أنور السادات بتولي التمرجي إدارة مستشفى، وعلى الرغم من أن ذلك لم يحدث، إلاّ أن مجرد تمتع الممرض بعضوية مجلس إدارة المستشفى “اللجنة الشعبية” تعدها النخب منتهى الجنون. واتضح فيما بعد أنّ عملية تجاوز النخب باتجاه الذين لا يملكون سوى جهدهم، لم تكن عملاً يتصف بالحكمة، وإن لم يرتق إلى الجنون؛ ذلك أنّ الذين لا يمتلكون سوى جهدهم لا يدركون في الغالب مصلحتهم، فسرعان ما اعطاء هؤلاء ظهورهم المنحنية لتلك العائلات التي كانت مسيطرة على المال والجاه، أو التي جددت سطوتها عليهم، بعد الانخراط في مشروعات الخصخصة، وحرية السوق، من خلال مشروع ليبيا الغد المستند إلى تنظيرات الليبراليين الجدد، ليمكنوها من اعتلاء ظهورهم مجدداً وإعادتها إلى سابق سطوتها، كما فعل أتباع سبارتاكوس في العصور القديمة.
وإذا أردنا إيجاد توصيف موضوعي للحكم خلال فترة القذافي فإننا سنقول بأنها شهدت مزاوجة بين سطوة الفرد وسطوة الشعب؛ حيث تجاوز القذافي النخب والعائلات الغنية إلى الشعب، سواءً من خلال الاستماع إلى مطالبه في الفترة السابقة على الممارسة الجماهيرية، أو من خلال العمل على تنفيذ الكثير من مقررات المؤتمرات الشعبية خلال الفترة الجماهيبرية. والقول بأن ليبيا خلال حقبة القذافي كانت مسرحاً لحكم الفرد تعوزه الدقة، إذ كان الحكم مشاركة بين القذافي والشعب، وهو ما يعني أيضاً بأنّ القول بوجود سطوة الشعب أو سلطة الشعب قول تعوزه الدقة أيضاً؛ فلا زمن إدريس شهد حكماً مطلقاً للفرد، ولا زمن القذافي؛ إذ كان الحكم مشاركة بين الملك والنخب “العائلات الغنية” في الأولى، ومشاركة بين القذافي والشعب في الثانية.
وشهدت المرحلة الرابعة التي بدأت بعد الإطاحة بالقذافي العودة إلى سطوة النخب المسيطرة على المال والجاه ” العائلات الغنية”، والمسيطرة على القول “المثقفون”. واستناداً إلى الوقائع التاريخية، تتسم سطوة النخب في ليبيا بالدخول في الفوضى والحروب الأهلية، الأمر الذي أعاد البلاد إلى فوضى عشرينات القرن الماضي وحروبه الأهلية؛ حيث عادة ما تتعامل النخب مع الوطن تعاملها مع الكعكة، إذ تتصارع تلك النخب على الكعكة، وتستخدم قبائلها وجهوياتها ومناطقها وطوائفها إن وجدت، من أجل قضم الجزء الأكبر منها، والغريب أن يحدث ذلك في ظل خطابات دعائية تتحدث عن الدولة المدنية، والتعددية، والقبول بالأخر، والمساواة أمام القانون، ودولة المواطنة، وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك من الشعارات، التي توظف من أجل الحصول على الجزء الأكبر من الكعكة ولا شيء أبعد من ذلك.
وللقرآن موقف متميز ومخالف للسائد من “النخب”؛ ففي حين تُمجد النخب في جل الحضارات، والتنظيرات، والإيديولوجيات، يتميز القرآن بموقف سلبي تجاهها؛ إذ يسميها بالمترفين. ويصنفها إلى مترفي المال، ومترفي الجاه، ومترفي القول. وللتمثيل لا الحصر يُعد قارون ومن على شاكلته أفضل من يمثل مترفي المال، وفرعون وملؤه أفضل من يمثل مترفي الجاه، والوليد بن المغيرة ومن على شاكلته أفضل من يمثل مترفي القول. والنخب المترفة وفقاً للقرآن عادة ما تكذّب التنزيل، وتقاوم الرسل عليهم السلام بكافة الوسائل؛ ذلك أنّ التنزيل يحدث خلخلة للقيم السائدة، والمؤسسات القائمة، بما يؤدي إلى تهديد سطوة النخب على نحو عام، والنخب المستحوذة على المال والجاه على نحو خاص. أما شريحة مترفي القول فهي شريحة تابعة وتخدم مصالح مترفي المال والجاه، شريطة الإنفاق عليها بسخاء وإبقائها في دائرة الضوء.
نخلص من ذلك إلى تصنيف أنماط الحكم التي عرفتها ليبيا، منذ خروج الأتراك وإلى اليوم إلى أربعة أنماط:
1- سطوة الفرد: وهي التي سادت خلال فترة الجهاد ضد الغزو الإيطالي من خلال النموذجين: أحمد الشريف السنوسي، وعمر المختار.
2- سطوة النخب: وهي التي سادت في العشرينات من القرن الماضي وخاصة في المنطقة الغربية، والعقد الثاني من القرن الحالي ” السبع سنوات الماضية”.
3- مزيج من سطوة الفرد وسطوة النخب: وهي التي سادت خلال الحكم الملكي.
4- مزيج من سطوة الفرد وسطوة الشعب: وهي التي سادت خلال الحكمين الجمهوري والجماهيري.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، يتمثل في ما هو نمط الحكم الأصلح لليبيين خلال المرحلة القادمة؟
إنّ كافة الصيغ المذكورة آنفاً لا تصلح للمرحلة القادمة، في تقديري، ذلك أنّ جميعها تم تجريبه ولم ينتج تنمية حقيقية، ولا نهوضاً حقيقياً، ولا حتى استقراراً طويل الأمد. والأجدر بنا استحداث صيغة جديدة لم نجربها من قبل، تجمع بين سطوة النخب وسطوة الشعب؛ وتتمثل في الجمع بين صيغتي الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية أو بمعنى أصح بين صيغة المؤتمرات الشعبية بدون لجان شعبية، وصيغة المجلس النيابي؛ حيث يتم وفق الصيغة الأولى تشكيل مجلس للنواب، يخضع لمبدأ سيادة الشعب يكون فيه النواب خاضعين لسطوة دوائرهم الانتخابية، يصوغون ما تقرره تلك الدوائر، لتحقق شكلا من أشكال سطوة الشعب. يعنى فيها مجلسهم ببلورة الرؤية الشعبية للقضايا المطروحة على المجلس النيابي. وستهجر النخب هذا المجلس بالضرورة، ذلك أنّه لا مجال فيه للنجومية، واستعراض المهارات الكلامية والسياسية. مع ضرورة تشكيل مجلس نيابي أخر يخضع لمبدأ سيادة الأمة، لا يمتثل فيه النواب لمطالب دوائرهم الانتخابية، استناداً إلى افتراض أنهم يدافعون عن مصالح الأمة وليس الشعب، والأمة هنا تشمل الأجداد أو الأسلاف والأحفاد أو الأجيال القادمة! ورغم هلامية المبدأ؛ فإن وجود مثل هذا المجلس ضروري للسلم الاجتماعي والأهلي، ذلك أن تحجيم دور النخب، يؤدي إلى تدمير الدولة؛ ذلك أنّ النخب المسيطرة على القول والمال والجاه كبيرة التأثير، ولا ترضى بمساواتها مع بقية شرائح الشعب، لنرجسيتها، وشعورها بالتفوق والتميز، وهو ما يستدعي ضرورة منحها دوراً موازناً للشعب قد يُرضي غرورها من جهة، وقد يؤدي إلى ترشيد قرارات الشعب من جهة أخرى. وستنخرط النخب بالضرورة في هذا المجلس؛ فالنخب ترفض الامتثال للشعب، وترى نفسها أجدر منه بالحكم، وأحق منه بالامتيازات التي تمنحها الدول المعاصرة للنخب. وعن طريق هذين المجلسين تتحقق مشاركة بين الشعب وبين النخب في إدارة البلاد، تكون مدعاة للاستقرار، وتحقق السلم والأمن الأهليين فلا يشعر الشعب بأنّ صوته غير مسموع، وهو ما سيؤدي إلى خروجه إلى الشارع متظاهراً ومعتصماً لإسقاط المجالس النيابية، كما فعل مرات عديدة خلال السنوات السبع السابقة. ولا تشعر النخب بكونها مهمشة إذ التهميش عندها يتمثل بمساواتها ببقية شرائح الشعب فيدفعها إلى التأمر على النظام القائم على سطوة الشعب.