مؤمنة التي وهبت العمر لأبناء القلب

مؤمنة التي وهبت العمر لأبناء القلب

  • التقتها :: زهرة موسى

براءتها وطيبة قلبها ستأسرك حين تراها منذ الوهلة الأولى، شخصية لطيفة ومحبوبة ، يلقبونها بأم الجميع لشدة طيبتها ، ولين تعاملها مع الجميع ، مؤمنة امرأة في نهاية العقد الخامس من عمرها ، أرملة تقطن بحي الجديد بمدينة سبها ، عملت كأخصائية اجتماعية ، بمدرسة الحرية ثم انتقلت بعد زواجها إلى سمنو حيث مستمرة في العطاء هناك . أثبتت مؤمنة خلال مسيرتها الناجحة أنه ليس من المهم أن تكمل تعليمك أو أن تكون ممتازاً في دراستك لتصبح ناجحا في حياتك المهنية ، لم تكن من الطلبة المتفوقين في دراستهم ، ولم تكمل تعليمها الجامعي ، و بالرغم من ذلك مؤمنة اليوم ناجحة في مجالها ، وتحصلت على العديد من الشهادات ، ولها بصمتها في مجال عملها ،فقط لأنها عشقت مهنتها . فَلَذَاتُ رُوحِي الْأُلَى لَمْ أنْجِبْهُمْ

. تحدثت ” مؤمنة الحضيري ” أخصائية اجتماعية ” وهبت عمري كله لأبناء قلبي ” للطلبة ” و مشاكلهم ، أحببت علم الاجتماع منذ البدء ورغبت جدا أن أعمل كأخصائية ، بالرغم من أنني لم أواصل دراسة الجامعة إلا أنني حققت ما تمنيت ، و لكن بعض الأصدقاء اقترحوا علي أن أنتسب للجامعة ، ولأن إدراكي ضعيف جدا ، و أحتاج أن أحضر الدروس ، و أن يقوم الأستاذ بالشرح حتى أفهم ، وأستوعب المادة ، لم أرغب بالانتساب لأنه سيكون صعبا عليّ أن أحضر الدروس ، وبالرغم من ذلك أنا لست حزينة ، فوجود هؤلاء الطلبة ملأ حياتي ، علاقتي بهم عوضتني عن الكثير ، و عندما أكون معهم و أناقش مشاكلهم أكون في قمة سعادتي. أردفت ” الطلبة جميعهم يحبونني لأني بالفعل أحببتهم و تعاملت معهم و كأنهم أبنائي ، وكانوا يلقبونني بأم الجميع ، كنت أحب أن أتحدث معهم و أناقش مشاكلهم و أحاول أن أجد لها حلولا ،حتى مشكلاتهم العائلية .

وَتَسْتَمِرّ رِحْلَةَ العَطَاءِ فِي سَمْنُو

بعد زواجي انتقلت للعيش “بسمنو” وواصلت عملي هناك كأخصائية اجتماعية لفترة ، وبعدها حدث نقص المدرسين في مادة التربية الوطنية ” قمت بتدريس هذه المادة للسنة الثانية والثالثة من المرحلة الإعدادية ” .

وكنت أتعامل مع طلابي بكل الحب ، و في حال مواجهة أي مشكلة أحاول أن أحلها مع الطالب في البداية ، وإذا عجزت عن ذلك ألجأ لتدخل إدارة المدرسة ، أو أطلب حضور ولي الأمر وذلك يكون بعد عدة محاولات مع الطالب نفسه . وأضافت ” كنت أقوم بزيارات ميدانية رفقة بعض المدرسات والإداريات ، لمنازل الطلبة لأكون قريبة من الأسر، ولأصبح على دراية بالوضع الاجتماعي للطالب ، كما اهتممت أيضا بالجانب الصحي للطلبة ، ففي العام 1988 بمدرسة الحرية بحي الجديد ، انتشر القمل فاتصلت بمسؤولي الصحة في ذلك الوقت و طلبت منهم تزويدنا بالأدوية والمعدات اللازمة ، والحمد لله قضينا على هذه الآفة داخل المدرسة . حاولت مع عدد من الأخصائيات استحداث مقصف ، فلم يكن هناك مطعم بالمدرسة ، جمعنا مبلغا من بعض الأخصائيات و اشترينا بعض الأغذية التي قمنا ببيعها ، كنت أشجع دائما الزيارات الميدانية ، فكنت أصطحب الطلبة إلى بعض المصانع بالمدينة ” مصنع المكرونة ، مصنع طماطم ” ، و الحمد لله كنت أتلقى بعض الدعم من إدارة المدرسة وكذلك وزارة التعليم التي كانت تدعمني .

و ذكرت السيدة مؤمنة : ” في سمنو رغم قصر الفترة التي بقيت فيها ، إلا أنني أنجزت الكثير ” فكنت أقوم ببعض المحاضرات للفتيات ، كما نظمت ورشة لتعليم الطهو ،كما كانت هناك صحيفة كانت تصدر عن المدرسة التي كنت أعمل بها ، و هي قد توقفت لبعض الوقت ، و أنا قمت بإعادة إصدارها وكان ذلك قبل الثورة “صحيفة الراية الخضراء ” ، و تحصلت على شهادة تكريم ، وقمت بإعادة إصدار هذه الصحيفة التي توقفت لسنوات طويلة ، كما نظمت لمعرض تراثي ، وكنت أشارك بأمسيات شعرية أيضا ، و أقمت و الزملاء احتفالا بعيد الأم ، وكان مختلفا ، إذ قمنا بتجهيز حلقة إذاعية بالمدرسة ، عن الأم ، و كان ذلك اليوم يوما مميزا علق بذاكرتي ، خصوصا أن المدرسة بالكامل بدأت هادئة تماما يستمعون إلى ما نقدمه من فقرات ، فكان حقا يوما جميلاً .

لَوْ كَانَ الفَقْرُ رَجُلاً لَطَلّقْتُهُ !

أشارت مؤمنة ” أتذكر إحدى أكثر القصص التي أثرت في ولن أنساها ما حييت ، فذات يوم عندما كنا في الطابور المدرسي ، أتاني طالبان سُورِيّا الجنسية ، وكانا يريدان أن يستأذنا لكي يعودا إلى المنزل ، فسألتهم لماذا تريدان العودة إلى المنزل ، فقد جئتما الآن ، مالذي حدث معكما ؟ ،فارتبكا ولم يريدا التحدث، وبعد أن أصررت عليهما رأيت ، الأخ الكبير يدمع ، فقال ” أمي بدها تنفصل عن أبي ” ، صدمت لما سمعت، وقلت لهم لماذا ماذا حدث ؟ فلم يجيبا ولكن دموعهما سرعان ما انسكبت لتملأ وجهيهما البريئين ، ولم أرغب في الضغط أكثر عليهما ، لذا قررت أن أذهب مع الطالبين صحبة بعض إداريات المدرسة . وتابعت ” بعد أن تنهدت ” .. قصدنا منزلهم ، تفاجأت الأم عند رؤيتها لنا ، ورغم ذلك رحبت بنا ، وكان واضحاً على ملامحها أنها تريد أن تعرف سبب زيارتنا المفاجئة، فبدأت تستفسر عن مستوى الطالبين الدراسي ، و عن سلوكهما ظنا منها بأن شكوى ما هي سبب الزيارة. استرسلت ” وبعد أن تجاذبنا أطراف الحوار و تعارفنا ، وأحست بالارتياح لنا ،بدأنا الحديث و أخبرناها بأننا أخواتها وجئنا للمساعدة وأخبرناها بما علمنا به ، فدمعت عيناها ، وقالت أنا لا أريد الانفصال و لكن لم أعد قادرة على التحمل أكثر ، أخبرتنا أنها هنا في بلد غريب مع أبنائها لا تملك ما تأكل و لا ما تشرب ، بالرغم من أن زوجها يعمل ، وكان عمله لايكسبه ما يسد حاجتهم ، وقد تدهورت حالتهم المادية منذ وقت طويل .

وقالت” بحسرة كبيرة إن زوجها عمل مع بعض الناس الذين قاموا باستغلاله ولم يعطوه ماله حتى هذه اللحظة، وهذه ليست المرة الأولى فهناك الكثير من الأشخاص المدينين له بأموال ، ولكنهم لم يعطوه إياه ، وهو لم يطالبهم ، وانهارت المرأة بالبكاء ، من أين سنطعم هؤلاء الأطفال كيف سأسكت جوعهم ، لقد مللت ولم أعد قادرة على التحمل ، حاولنا تهدئتها ، و نصحناها ، بأن تعدل عن الطلاق ، وطلبت منها أن أتحدث أنا لزوجها ، ربما يستطيع أن يحل الأمور علنا نجد حلا غير الطلاق. قالت ” انتظرنا حتى عاد زوجها ، وطلبت أن أتحدث معه ، و كان رجلا مهذبا ، لم يرفع عينه إلي و تحدث معي بكل لباقة و احترام ، و أكد لي بأنه لن يطلقها وسيحاول أن يأخذ ماله ممن يطالبهم ، وسيجد حلا يحسن وضعهم المادي فهو أيضا ليس راض عما يحدث ولكن ليس بمقدوره شيء، تشكرنا جدا، لم تنته علاقتي بهذه الأسرة بعد هذا الموقف فبدأنا نتردد عليهم بشكل دائم و نحمل لهم بعض ما نستطيع تأمينه من طعام . قَصِيدَةُ العِيدِ لِأمّ الجَمِيعِ .. نوهت ” و من أجمل لحظات حياتي المهنية عندما كتب أحد طلابي قصيدة لي كهدية في عيد الأم و هذا التلميذالطفل ، أصبح الآن شاباً يدرس الهندسة ، وهي عبارة عن 8 أبيات ، مطلعها ” إذا ما تفقدت يوما يا معلمتي حقيبتي و كتبي و الكراسة و القلم يزورني طيفك الغالي فأحضنه شوقا إليك يامن زرتني وكنت أميا حتى التقيت بك فكتبت التاريخ و العنوان و الاسم لن أنسى فضلك ما حييت ولن أنكر جميلك يا قولي كله قسما جزاك الله عني كل مكرمة بجاه الانبياء ومن صلى و من صام يا ربي احفظ جمعنا من كل نائبة لاهم ولا فقر ولا سقما أمي وداعا حتى اللقاء بك اذكريني اذكريني فإني أذكرك دوما كانت القصيدة رائعة جدا ولامستني جدا ، احتفظت بها ، فقربي من هؤلاء الطلبة جعلهم أبنائي فأنا أحب التعاطي مع كل تفاصيل معاناتهم مهما بدت صغيرة . زَوْجِي صَدِيقِي وَسَنَدِي الجَمِيلِ …

” كان زواجي متأخراً عندما أصبحت كبيرة في السن ، حينها تقدم رجل مسن لطلبي ، كان عمر ذلك الرجل يقارب عمر والدي ،و له بنات أكبر مني ، ولأني كنت أرغب في الزواج والاستقرار ولم أهتم لتفصيل تقدمه في السن ،كنت أريد حينها الزواج فحسب . أظهرت ” كان زواجنا تقليديا ، لم تكن هناك قصة حب قبل ارتباطنا ، وأنا خفت في بداية الأمر من كونه كبيرا في السن ، ولكن أخي أقنعني بأنهم أسرة محافظة و أنهم سيهتمون بي ويقدروني ، و باعتبار أني أخصائية اجتماعية ، اعتدت على التعامل مع شخصيات مختلفة ، و مع فئات عمرية مختلفة ، فشعرت ببعض الطمأنينة . في الوهلة الأولى لرؤيته ، لم أحب ذلك العكاز الذي كان يتكئ عليها ، ولكن مع الوقت ،بعد زواجنا ، اعتدت عليه ، وعلى منظره . رغم فارق العمر إلا أننا أصبحنا أصدقاء ، كان رجلاً وقوراً ، و يتطلب معاملة خاصة ، و اهتماما أكبر ، و أنا منحته هذا الشيء ، وخلال فترة قصيرة أحببته ، و أحبني ، وكنا نفعل أبسط الأشياء مع بعضنا البعض ، عشت معه ستة أعوام ، من أجمل سنوات عمري ، رغم قصر المدة التي عشناها مع بعض إلا أنها كانت جميلة جدا ، فكان لي خير سند و عون . أشارت ” كانت الأمور تسير على ما يرام ، ولكن واجهتني في البداية صعوبة في التعامل مع ابنته ، هي لم تكن متزوجة ، كانت تعاملني معاملة زوجة الأب التي جاءت لأخذ مكان والدتها في البيت وفي قلب والدها و في قلوبهم أجمعين ، و هذا أمر طبيعي جدا ، ومع مرور الوقت حاولت التقرب منها و التحدث إليها ، و تكلمت معها ، فحدثتني عن أن والدها يعاملني بطريقة مغايرة لمعاملته أمها ، فقلت لها والدتك قاست و تحملت الكثير من أجلكم أنتم ، ولكنني لم أنجب أبناء ، فإذا بدر منه أي فعل أزعجني ، لن أبقى معه و لن أتحمله ، فلهذا لا تتحسسي أبدا من معاملته لي ، و أيضا الآن أباك رجل مسن و يحتاج لمعاملة فيها أكثر ليونة و اهتمام أكثر ، فكان من الطبيعي أن يحسن معاملتي ، و لكن و الحمد لله تجاوزنا هذا الأمر مع مرور الوقت . وَلِلْمَوْتِ أيْضاً حُلْمٌ يُحَقّقُه ! أردفت ” ذات يوم مرض زوجي مرضا شديدا ، و استمر مرضه ثلاثة أسابيع تقريبا، فحلم يومها بقدوم أشخاص يرتدون ملابس بيضاء ، فقالوا له استعد ، في تلك اللحظة أيقنت بأنه سيموت ، فذهبت للسوق و اشتريت الكفن ، و قمت بخياطته بنفسي ،وصابرت نفسي على فراقه رغم صعوبة الأمر ، و الحمد لله الذي رزقني الصبر . يوم رحيله شعرت بإحساس الأم عند فقدها لولدها ، حينها سألت والدتي ما شعور المرأة عند فقدانها أحد أبنائها ، قالت ستشعر بأن كبدها قد نزع منها وحقا هذا ماشعرت به حينها ،، كذب الذين يقولون إن فراق الزوج أقل ألما من فقد الأم لابنها ، فأنا شعرت و كأنني فقدت ابنا لي ، لأني كنت أهتم به كابن لي ، حتى في يوم الجمعة كنت ألبسه و أجهزه ، ثم نقرأ سويا أذكارا لحمايته من العين و الحسد ، وكنا نتوضأ سويا ليخرج للمسجد ، أدق تفاصيل حياتنا كنا نقوم بها سويا . أكملت فترة العدة في سمنو و أكملت ما تبقى من العام هناك ، من ثم رجعت إلى مدينتي ” سبها ” ، لأستأنف بعد فترة عملي كأخصائية اجتماعية في معهد ديني ” وكان عدد الطلبة قليلا جدا ، فوصل عددهم ” 12 ” طالبا ، و الأمور تسير بشكل جيد الآن ، أجلس معهم بشكل يومي أقدم لهم بعض النصائح في حياتهم الاجتماعية وفي تعاملاتهم مع الأسرة والأصدقاء ، و الحمد لله هناك نوع من الانسجام و التناغم بيني و بين الطلبة .

مَسْؤُولِيّتِي مَنَحَتْنِي حُرّيَتِي !

بعد عودتي إلى منزل أهلي ، رجعت كالسابق استلمت زمام الأمور ، وكانت لدي أخت لم تتزوج ، وهنا بدأت بيننا بعض المشكلات لاختلاف الآراء ، ولكن بالرغم من ذلك ، لم آبه لها ، وقمت بتوضيب المنزل كما أريد ، وكنت أنا الآمرة و الناهية هنا ، و لم يعتد أحد على حريتي ، أخرج متى أريد وأعود وقت ما أريد ، ولكنني كنت محافظة ، صحيح أن حريتي لا تزال ملكي ولكن الفضل في ذلك يعود لفرضي هذا الأمر ، لأنني أختار أوقاتا مناسبة للخروج و العودة كما أني لا أملك أماكن كثيرة لأقصدها إلا للضروريات ، والحمد لله ، فها أنا أعتمد على نفسي ، و أوفر جل ما أريد ، فلن أجلس في مكاني و أطلب من عائلتي أن توفر لي كل شيء فقط لأنني أصبحت أرملة وعدت للعيش معهم . و أوفت الحديث بقولها : ” خلال السنوات التي قضيتها في العمل تحصلت على 15 شهادة ، و من بينها شهادة تعطى لموظف بعد عشرين سنة من العمل ، و لكني تحصلت عليها قبل أن أكمل عشرين عاما وكانت مكافأة لي لأني كنت مميزة في عملي ، كما أني تحصلت على عدد من الشهادات في إلقاء الشعر ، فأنا أحب كتابة الخاطرة ، و إلقاء القصائد ، فأمي و أختي أيضا تكتبان الشعر، و كانت بادرة جميلة من شبيبة الهلال الأحمر حين دعتنا أنا وإحدى زميلاتي مدرسة لغة عربية لحضور حفل تكريم ، و من ثم كتبت عنا في المجلة ، و أطلقت عليّ لقب الأم المثالية. أردفت ” الشدة و الحزم أشياء جميلة جدا و هي مهمة في بعض الأحيان ، بالرغم من أن معاملتي مع الطلبة يغلب عليها اللين والحنية ، ولكن أيضا الشدة مطلوبة أحياناً ، فأنا في صغري كنت ” كسولة بعض الشيء ، و كنت لا أدرس و لا أكتب الواجب إلا حين توبخني معلمتي أو تضربني ، فلهذا يجب أن نستخدم الشدة و التوبيخ في بعض الأحيان لتقويم الأمر . وختاماً أعربت ” من شدة تعلقي بعملي ،و الطلبة ، لا أحب أن أتغيب أو أتأخر أبدا في الحضور ، فكان إخوتي يستهزؤون بي عندما أتأخر ، فيقولون أنت هنا من فتح المدرسة اليوم ؟ ، اعتادوا أن أقوم أنا بفتحها و أنا أغلقها ، وسبحان الله حتى أني كنت لا أمرض إلا يوم الجمعة أو في العطلات ، فكانوا دائما ما يقولون : من شدة محبتك للمدرسة و الطلبة ، لا تمرضين إلا في العطلات !

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :