ما لا يقال حتى للجمال

ما لا يقال حتى للجمال

  • كتب :: عبد الرحمن جماعة

عادة البدوي عندما يطول به السفر، ويستبد به الضجر، ولا يجد من يتحدث معه فإنه يتحدث مع جمله، يبث له شجونه، ويشكو له همومه، ويقص عليه أخباره، ويُخبره عن أحلامه وطموحاته، فيشعر بشيء من الراحة، وبقليل من السكينة، فينزاح عنه الوصب، ويخف عنه التعب.

ولكن إياك أن تُقلدهم في ذلك، فالبدو ليسوا خبراء في الجمال فحسب، ولكن خبرتهم تتعدى إلى ما يقال وما لا يقال للجمل، فعندما تتحدث مع جملك لا يمكنك أن تخبره بكل شيء، لأن بعض الأشياء تظل عصية على البوح، صعبة على السرد، حتى لو كان السامع جملاً، وحتى لو كان الجمل جملك.

صحيح أن جملك لن يصل إلى معنى الكلام، ولن يدرك أبعاده ومراميه، ولن يستاء من فحشه، ولن يشمئز من قبحه، ولن يتضايق من وقاحته، ولن يفرح لمُفرِحه أو يحزن لمُحزِنه.

لكن المتكلم سامع، والمشتكي يتأثر بشكواه، ومُضرم النار قد يطاله لظاها ويناله أوارها، والمجترُّ قد يغصُّ بما أجتر.

والأسوأ من كل ذلك أن جملك لا يملك القدرة على تصبيرك، ولا يقدر على طمأنتك، ولا يمكنه تهدئتك. بل إنَّ سكوته قد يزيد من همك، وصمته قد يُراكم ألمك.

ولهذا لا بدَّ أن تعرف أن ثمة كلام لا يصلح إلا للكتمان، وبعض القول لا يَحسُن أن يمرَّ على اللسان، وبعض السر تكتمه فيجرح خير من أن تفشيه فيفضح.

ولهذا فحذار حذار أن تحدث جملك بهذه الأربع فقد قيل إن بعضهم حدَّث بها جمله فرجع من سفره راجلاً!.

الأولى: حين كانت أعناقنا تشرئب إلى خطاب التحرير، وقلوبنا يملؤها الأمل بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية ليفاجئنا رئيس أعلى سلطة في البلاد، وفي خطاب كان يفترض أن يكون تاريخياً لولا أن التاريخ ألقى أقلامه ومزَّق دفاتره وسجلاته لأنه عجز أن يسجل (الزواج بأربع نساء) كنصرٍ مؤزر وفتح مبين،وكتتويج لكل التضحيات، وكجائزة على ما سبقها من نضال، وكذروة سنام الثورة التي أظهرها ذلك الخطاب على أنها معركة بين أنصار التعدد وأنصار الواحدة!.

ومنذ ذلك الخطاب بدأ الانحراف الذي تحول مع الزمن إلى زاوية منفرجة تقاس درجتها بمقدار الفجوة بين الحلم والواقع، وبعمق الهوة بين الحقيقة والخيال، وبالبون الشاسع بين ضخامة الأمل وهول الخيبة، وبالمسافة الكبيرة بين ما كنا نريد وبين ما أريد لنا!.

الثانية: حين قام رئيس لجنة الأمن القومي بالمؤتمر الوطني وبعد أن سأله المذيع عن الحل لمشكلة التفجيرات،وعن المركبات التي تُفخخ في كل شارع، وعن الأرواح التي تُزهق في كل يوم، فكانت إجابته أسوأ من إجابة (ماري أنطوانيت) ملكة فرنسا عندما سألت عن سبب المظاهرات،فقيل لها:إنهم جائعون ولم يجدوا خبزاً يأكلونه، فقالت: ولِمَ لا يأكلون جاتوه!.

الثالثة: تصريح رئيس المجلس الأعلى للدولة وحديثه عن الشرعية لأناس رقابهم تحت سكاكين داعش، وأموالهم في أيد المجرمين، ووقودهم يُهرب أمام أنظارهم، فكان حديثه أشد قرفاً من التقيؤ على المائدة، وأشد قبحاً من غولة في وضع الولادة، وأشد بطلاناً من الصلاة في الخمارة وبلا وضوء وعلى غير القبلة!.

الرابعة: ما يحدث في مجلس النواب من صراعات ودسائس وعراك بالأيدي وسباب 18+ الأمر الذي يجعل من وجود (بوعكوز) أمراً ضرورياً، لأنه لا يصح ترك الصبية يلعبون دون أن يراقبهم رجل كبير في السن، ولا بد لهذا المُسن أن يحمل في يده عصا!.

هذه هي الأربعة التي ينبغي أن لا تذكرها، ويجب أن لا تتحدث بها حتى ولو كنت في صحراء خالية إلا منك ومن جملك، لكن هذه الأربعة ليست عدداًحصرياً، وإنما هي مجرد أمثلة لتقيس عليها، وإلا فإن ما لا يصح قوله حتى أمام الجِمال أكثر من أن يُحصى، وأكبر من أن يُقال، وأسوأ من أن يُعرض، وأقبح وأفدح وأشنع وأبشع وأفحش من أن يُذاع ويُنشر!.

…… والله المستعان!!.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :