مبررات الرقابة على دستورية القوانين      

مبررات الرقابة على دستورية القوانين      

   بقلم :: علي ضوء الشريف

أدركنا في منشورات سابقة مفهوم الرقابة على دستورية القوانين ؛ والذي قصد به “آلية من خلالها يتم التحقق من مدى مطابقة القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية لنصوص الدستور ، قد تتجسد هذه الآلية في هيئة ذات طبيعة سياسية كالمجلس الدستوري الفرنسي ، وقد تتجسد هذه الآلية في هيئة ذات طبيعة قضائية وهو ما عليه أغلب الدول مع مراعاة الاختلاف ما بين هذه الهيئات والتي قد تظهر في غالب الأحيان قضاءً دستورياً مستقلاً كالمحكمة الدستورية المصرية أو قضاءً دستورياً تابعاً كالدائرة الدستورية في المحكمة العليا الليبية” .

والقارئ من المؤكد أنه سيراوده تساؤل عن حكمة تبني هذه الآلية ، إذا ما هي المبررات التي دفعت لإيجاد هذه الفكرة؟  بل وتبنيها من عديد الدول ، إذ لا يخلو نظامً سياسي ديمقراطي من تطبيق لفكرة الرقابة على دستورية القوانين ! .

يرى فقهاء القانون أن القوانين في الدولة المعاصرة ليست على مستوى واحد من حيث القوة ، فهناك قوانين أعلى وهناك قوانين أدنى ، وهذا ما يمكن أن يُعَبَرُ عنه بتدرج القوانين أو التدرج التشريعي ، أي ( ترتيب القواعد القانونية أو الأدوات التشريعية من الأعلى إلى الأدنى وفقاً لقوتها والجهة المنوط بها إصدارها مع ضرورة الالتزام عند التطبيق بهذا الترتيب ) ، وفي الدول المعاصرة نجد القانون الدستوري في قمة هرم التشريعات القانونية ، ويرجع هذا الأمر إلى سببين  :

الأول / يتمثل في كونه صادرا عن جهة أعلى من الجهات المختصة بإصدار باقي التشريعات القانونية ، ففي الأنظمة الديمقراطية المعاصرة يتم وضع الدستور من قبل جهة تأسيسه ، أما إصدار التشريعات العادية على ضوئه وفي حدوده يتم من خلال الجهات المؤسسة  .

أما الثاني / بكونه الأساس الذي ينشئ السلطات العامة وتعمل في إطاره ، فلا يجوز لها -أي السلطات العامة- أن تصدر أعمالاً متعارضة مع نصوص الدستور ، وإلا فإنها تكون قد خالفت حدود سلطاتها المحدودة بموجب الدستور ، باعتباره الأساس الذي تقوم عليه سلطات الدولة   .

وموقع الدستور في قمة هرم التشريعات القانونية للدولة ، أضفى عليه سمواً ميزه عن غيره من التشريعات ، وإذا كانت السلطات العامة والمؤسسات التابعة لها ملزمة وفق المفهوم العام لمبدأ المشروعية الخضوع لحكم القانون ، فالالتزام وفق هذا المفهوم يشتد أكثر عندما نكون أمام القوانين الدستورية باعتبارها الأسمى في سلم التشريعات القانونية ، ومع هذا فإن سمو الدستور لا يعني عدم تعرضه للانتهاك من قبل السلطات العامة ، فالتجارب الدولية أثبتت ذلك ، ووصلت إلى أن سمو الدستور لا معنى له في ظل غياب الحماية تحول دون حدوث أي انتهاك في حقه ، وقد حظيت الولايات المتحدة الأمريكية بشرف السبق في حماية هذا السمو قضائياً من خلال محكمتها العليا في القضية المشهورة ماربوري ضد ماديسون سنة 1803م ، والتي أقرت فيها لنفسها حق الرقابة على دستورية القوانين ؛ أي التحقق من مدى مطابقة القوانين العادية للقانون الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية ، وفي الفترة ما بين الحربين العالميتين ، أي في بدايات القرن العشرين ، وتأثراً بفكر الفقيه النمساوي كلسن ، أنشأت النمسا أول محكمة دستورية في أوربا عام 1920م ، وتبعتها في ذلك وفي نفس العام بالتحديد تشيكوسلوفاكيا ، ومن ثم بدأت الرقابة الدستورية تنتشر في أوروبا خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وفي أفريقيا عقب حالة الاستقلال السياسي الذي اجتاح القارة الأفريقية ، والحقيقة لا نريد التعريج على نشأة وتطور الرقابة الدستورية لأنه موضوع المبحث الثاني من هذا الفصل ، ولكن ما نريد قوله من خلال هذا السرد إن الرقابة على دستورية القوانين وبغض النظر عن اختلاف أساليبها فقد اختيرت كآلية يتم من خلالها حماية الدستور والحفاظ على علويته ، واستناداً على ما ذهب إليه فقهاء السياسة والقانون في القول بأن التشريعات في الدولة المعاصرة ليست على مستوى واحد ، وأن أعلى وأسمى هذه التشريعات هو القانون الدستوري ؛ وأن هذا السمو لم يحجب السلطات التشريعية من انتهاك أحكام الدستور ، لهذا السبب أقرت الرقابة الدستورية ، فالسلطات التشريعية المُؤَسَسَةُ ( البرلمانات ) أثناء إصدارها للقوانين العادية هي مُلْزَمَةٌ باحترام أحكام الدستور الصادرة من السلطة المُؤَسِسَةُ ( هيئات صياغة الدستور ) ، وعلى هذا النسق الفكري اعتبرت الرقابة الدستورية نتاجاً لسيادة مبدأي التدرج التشريعي والسمو الدستوري .

وسوف نتناول كلا المبدأين بشيء من التفصيل في الأعداد القادمة بإذن الله تعالى .

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :