مرآة مقعرة

مرآة مقعرة

عبدالرحمن جماعة

الإنسان لا يرى نفسه إلا من خلال مرآة نفسه، تلك المرآة التي صنعها على مقاسه، وصقلها على هواه، لتضخم له ذاته، وتبرز فضائله وميزاته، وتُخفي عنه عيوبه وعثراته. أصعب شيء على الإنسان هو أن يرى عيوبه ونقائصه، فعين الإنسان لا تنظر إلا في ثلاثة اتجاهات فقط، بينما يختبئ الرائي في المكان الرابع، بل إن إمكانية رؤية الذات لم تُتح حتى للجمل الذي أوتي رقبة طويلة قادرة على الدوران والنظر في جميع الاتجاهات، ومع ذلك فإنه حين يلتفت إلى الوراء لا يرى إلا سنامه المرتفع. لذلك فإن الإنسان يستعيض عن النظر إلى هذه الزاوية العمياء بالظن والتقدير والتخمين.. وهذا هو أُسُّ الإشكاليات، وأبو المعضلات، ومكمن الآفات. إن الإنسان حين يبدأ في تقدير حجم ذاته، وتقييم نفسه، وتشخيص عيوبه، فإنه يستعين بنفسه، ويستشير ذاته، ويحتكم إلى أناه.. ولا يقبل أي شهادة من خارجه. وإذا أراد الإنسان أن يعقد محمكة لذاته ليُفتش عن عيوبه، وليستكشف أمراضه وعلله، فإن جميع من في المحكمة يتحولون بقدرة قادر إلى محامين للدفاع والتبرير. إن أعتى المجرمين في العالم كانوا يُقبِّلون الأطفال، ويُطعمون العصافير، ويتحدثون بالفم المليان عن الأخلاق والدين والنظام والقانون والوطنية. إن النفس البشرية هي مجرد آلة لصنع التبريرات، وإلقاء اللوم على الظروف والأسباب والآخرين. في مدرستنا كان الطلبة الراسبون وحدهم من يلعنون الأستاذ، ويُلقون باللائمة عليه، ليس لكرههم للأستاذ، بل لحبهم لذواتهم، وليس لأن الأستاذ مخطئ بالفعل، بل لأن ذواتهم لم تقدر على تجرع مرارة الاعتراف بالخطأ. وفي حينا سرق أحدهم مكيفاً من مخزن والده، ليشتري به جرعة مخدرات، وعندما سألوه قال: “الشايب حاسدنا فيه”!

إن أول شيء يفعله الإنسان حين يفشل في أمرٍ ما ليس الاعتراف بالفشل، بل البحث عن أول وأقرب مشجب ليعلق عليه خيبته. يُحكى أن رجلاً كان يُحمِّل زوجته كل أخطائه وعيوبه وفشله وإخفاقاته، وكانت المسكينة لا ترد على اتهاماته، وبعد أن توفيت تزوج بأخرى قطَّرت الثوم في عينيه، وأرته نجم سهيل في رابعة النهار.. فقال: كُلَّه من فلانة، لو لم تمت لما تزوجت من هذه الحرنيفة! إن الحل لا يكمن في جعل الإنسان يُدين نفسه ويقلل من شأنها، أو يستصغر ذاته ويحط من قدرها، بل إن مقداراً من النرجسية، وشيئاً من حب الذات والاعتداد بالنفس لا بد أن تتوفر في الكائن البشري، ليتوازن، ولتبعث فيه الطاقة على فعل الخير، والرغبة في الإصلاح. لكن الحل يكمن في التنفيذ الصارم للقانون، لأنه الجهة الوحيدة المحايدة، التي لا تُجامل ولا تُحابي ولا تُساير ولا تُداجي ولا تُداري. أما دون ذلك فإننا سنستمر في مغازلة أنفسنا، وتمجيد ذواتنا، وتعظيم شخوصنا، ولن نستيقظ من هذا الوهم إلا حين يفتك بنا المرض، ويستفحل بنا الداء!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :