- رمضان الحضري
حينما لا يستطيع اللسان أن يزرع فضاء الحوادث حروفًا يانعةً لتصبحَ أشجاراً تملأُ القلوب بالنجوى، وتزهر أغصان الحياة بألوان الجمال المسموع فيعشق الذهن مواقيت الكلام، عندها تعلن العيون عن قدرتها على تعظيم شعائر الصمت والصبر فتزف عرائس الدموع متراقصة في مهرجان الأحزان.
يا لها من لحظات يتوقف العقل عندها طويلا طويلا إذ تتسرب خيوط الظلام في خلسة الغفوات ومهارة محترفي اللصوصية ليصبح الظلامُ سجانا للضياء، وتغدو البسمة أسيرة في قيود الألم.
من تراه يعطف على الدمعات اليتيمات في حلقات العميان، ومن ينتبه لبكاء الوليد في جوقة الصم.
إن الدموع تشعر بمرارة اليتم أكثر من صبي فقد والديه في ظهرٍ كان صباحه زلزالا، فالنهر يبكي رمادا حينما يفقد ماءه، ويعرف الغصن معنى اليتم حينما تهجره البلابل، ويبكي البدر من اليتم إذا وجد نفسه يسبح وحيدا بين أمواج الظلام.
يأتي عيد الأم هذا العام وليس في جعبتي سوى قصيدة (مسافرة بلا أشياء) لشاعر العربية الكبير عبد العزيز جويدة، وقد درست القصيدة سابقا في أكثر من مقالة، ولا تزال القصيدة بحاجة لدراسة مطولة، فرأيت أن أقدم التحية لأمهات القصيدة المصرية المعاصرة، حيث إنهن حاولن الإجادة وبلغن فيها مبلغا حسنا.
أولا : قصيدة الأم للشاعرة الرائدة / شريفة السيد:
تمنح الخبرات صاحبها بصمة في الكتابة لا تمكن غيره من مضارعتها أو حتى الاقتراب منها، وتبرز الخبرات في مساحة الثقافة الطويلة، من خلال الدربة والقدرة على صياغة هذه الثقافة على صفحة الشعور، فإذا أمسكت النص قلت إن اسم صاحبه مطبوع على كل كلمة فيه، لأن الكاتب العبقري وهو الأكثر جدوى للمجتمع يكتب على كلماته على شكل روحه، ويضبط إيقاع النص على نبضات قلبه، فترى في القصيدة جبين قائلها وغدوه ورواحه، وسراه ومسيره وشجونه وسروره،
حينما يعيش المرء ماضيه بشعور أقوى من لحظتي الماضي والحاضر فتستمع لصوت الجمادات وتشعر بما يدور في خاطر الحجر فهذا يعني أنك أمام عبقرية كبيرة.
تقدم الشاعرة نصا شعريا يحمل طابعا مستحدثا في الشعرية العربية، حيث إنها تستخدم دراما الواقع لتصبح دراما نصية، فهي لا تأخذنا للماضي بقدر ما تتفاعل مع الماضي ليصبح حاضرا بيننا نتفاعل معه كما تتفاعل معه وتنفعل به، فتبدأ القصيدة بسردية اليومي، وحينما تعرف ان الكاتب يدرك ماهية اليومي في الشعرية فعليك ان تثق بأنه في كامل وعيه الفني، فهو يبدأ من العقل تجاه الشعور، فينتظم المفهوم مع التأثير النفسي والمعنوي، لتقف الشاعرة في المنتصف تماما بين ما تقوله وتشعر به وبين الواقع الذي عاشته في الماضي ثم استدعته ليشاركها لحظات الحاضر، فهي لا تتذكر، لكنها تمسك بالماضي بوصفه واقعا في الحال، فتتحاور مع أمها الراحلة ذات حوارها معها أثناء حياتها، وتدلف إلى الشال ليتحاورا حوارا ساخنا، أكثر قوة من حال وجوده في الماضي، فهو أقوى تأثيرا في النص، حتى لتشعرك أن حضوره في النص أروع من وجوده في (الدولاب)، وعليك أن تصغي له، فهو يمتلك القدرة على أن يقنعك بوظيفته الحالية في النص أكثر من وظيفته الماضية على رأس الراحلة الكريمة، وتنقل الشاعرة الأحداث النصية بموسيقا فاعلاتن وهي التفعيلة الرئيسة في بحر الرمل، وكأنها تعيد الأطلال لناجي مرة أخرى ولكن بإدارة نصية أكثر وعيا، حيث إن النص عند ناجي يمتلك قدرات تأثيرية هائلة من خلال التصوير، بينما النص عند شريفة السيد يمتلك القدرة على تعميق الشعور والانفتاح على مواطن الضعف والقوة في النفس الإنسانية، لأنها صانعة الحقيقة في نص شعري، فالتخييل في النص عندها يسرد منظومة أسرية وعلاقات متشابكة وجميعها مع يسرها في منتهى التعقيد، غير أن الشاعرة كانت فراشة في بستانها، تمتلك الاختيار والاصطفاء للأحداث التي تريد أن تسوقها للقارئ، سواء الأحداث النفسية، أو الأحداث الرؤيوية التي تصنع منها صورا ثقافية في منتهى الجودة، فرأيها المنفرد في الشال، يختلف عن رأيها في وصية الأم باستكمال المسيرة في الخير، وأن يظل البيت مفتوحا للقاصي والداني، فعرضت الشاعرة أكثر من وجهة نظر في النص.
جاءت القصيدة معنونة ب (ملاك في شكل ست) وتقول فيها :
***************
رُحت بيت العيلة مَرة
بعد غيبة طويلة مُرة
قبل ما افتح جاني صوتها
انتي جيتي .. ؟
قلت لأه…..
زي لما زمان قالتها وكان جوابي لأ ماجيتشي
كات بتضحك زي طفلة
ليها نظرة صافية جدا زي موناليزة دافنشي
صوتها دافي… يااااه وحشني
روحت ع الدولاب فتحته
خدت شالها الصوف حضنته
غُصت فيه ؛
لسه برضو الحضن دافي
لسه فيه ريحة شبابها وذكرياتها
لسه بيطبطب عليها ، وبرضو بيطبطب عليا
أصله يمكن حسّ بيا
حَسّ إني بقيت يتيمة …
حس بالعطش اللي خلا ريقي ينشف
حس إني مهما أكبر برضو محتاجة لحنانها
لسه بيطبطب عليا حَب يرجع
قلت له خليك شوية ، لسه ما شبعتش من امي
اللي أخَدِتْ كل شيء حلو وجميل نوَّر حياتنا
لسه فاكرة دموع عِنيها
وهي بتقول غطي رجلي ،
حُطي إيدِك فوق دماغي ،
هاتي فوطة وطبقيها تحت جنبي،
لأه مش عاوزة العلاج،
طفي نور الأوضة حبة،
أصلي عايزة ارتاح شوية ،
………………………و.. إوعي تمشي …. !
لسه إيدها ماسكة فيا
إيدها ساقعة
خاسة خالص
قلبي مخطوف مش مصدق
.. إن هيا اللي هتمشي !
فجأة شوفت ذنوبي جاية بتعاتبني
ذنب لما كنت بتأخر عليها
ذنب لما كات بتديني النصيحة واسِد وِدني
ذنب لما صوتي يعلا وهِيَّا تهمس :
وطِّي صوتِك…!
الملايكة يسمعوكي…. !
الذنوب دي عذبوني
قلت بالله اعتقوني
قلبي أصلا مش مصدق إنها ما بقيتش بيننا
قلبي مقسوم من ساعتها
روحي راحت
لما شوفت الحب كله بيدفنوه
الحنان والرقه وام الذوق وابوه .!
. هيا دي ؟؟
هِيا دي اللي
كات بتسقينا المحبة ف الكاسات.؟!
كات تِحُوش اللقمة لينا مغمساها بشوق ولهفة وحكايات …؟ !
كات بتنشُر أمنياتنا ع السطوح..؟
كات بتخبز صبرها في الفجر دايمًا
كات ترُصُه ف المِشَنة قبل طابور الصباح
ناخدُه جوّة الشنطة ، نجري ع المدارس…
كات تحادي
كات تدادي
كات بتملا قلوبنا خير مش بس حب
وتذاكر لي
عاملة أبلة عليا حتى ف الانجليزي
كات تسمّعهولي كله
زي ما تكون بنت مدرسة اللغات
بس ايه
انا واخده بالي
الكتاب مقلوب في إيدها ….. مش مهم – !
المهم ف ثانية تلمح – من عنيا- إني باتلجلج فترجع تديهولي
تقول بشخطة :
راجعي تاني . مش هنام الا اما اشوفك حافظة صَم
احلى أم… واغلى أم
ياما جات لي المدرسة وسألت عليا
كنت لما انقص بدرجة واحده بس
آااكل العلقة التمام
كات تحب تشوفني طالعة الأولى دايما
كات تاخدني السيدة زينب ف ليلةالامتحان
ومنها نمشي ع الحسين
والدعاء الحلو بعد الركعتين
كل جايزة كات تفرّق بيبسي والشربات معاه
يعني دي حلاوة التفوق والنجاح
فرحة الأم الذكية
اللي كانت تنهتز فرصة وتجمع الجيران ع الفرح دايما
الجيران …!
بالمناسبة الجيران م الطيبة كانو مْخَلَّطين
إلا هيَّا
كات تقول احنا في حالنا
بس ساعة الجد تبقى
هي ست الكل وام الجدعنة وطمي السنين
ست بس 100/100
ست جايه بتًقلها من صلب خوفو
وكات تقول خفرع دا اخويا
ومنقرع دابني الصغير
ياااااه يا أمي .. الجيران كنتي ليهم زي أم
خلتينا الكل واحد
يعني كان الفرح واحد ، ودمعة الأحزان تعُم
كانوا زي السبحة ف أدين الملايكة
وهي لامة شملهم وجد وحنين
اي خدمة …. ؟
بيتها سجادة صلا
وترنيمة تعزفها الإيدين الشقيانين
لما ماتت
كات وصيتها الجيران :
تفتحو البيت زي ماهو
الدِّبيح زي ماهو
والزكاه م البيت دهو ماتتقطعش
اوعو بيتنا يتقفل ف وش حد
عمَّروا البيت الكبير … اوعوا يدبل وردُه أبدا
ربنا يفتح عليكم.
بنت عز …
حتى من بين الاسامي قالوا لها عز وقبله دام….. والشهرة عز
اسم دال .
اسم كان مصنع رجال
عملاق لوحدُه
كان مَثَلها الشاطرة تغزل توبها بضوافر الحصان
واللي عنده دماغ وراس
يعمل اللي صعب يعملوه الناس
وللا لما تقول يا بت الكدب خيبة
واللا لما تقول يااااارب انت عالم باللي فيا
عاوزة سترك
ربنا يستر عليا وع البنات
الا البنات يارب صونهم ، واحميهم لي
وخليهم لي…. البنت رزق .
ركِّزِتْ ف الوحده بين أولاد شارعنا
المسيحي كات تعامله كأنه مسلم
كات تشجّع المدرس ( سيداروس )
تِمدح في شرحُه
كات بتعزمهم تمللي
ويفطروا ف رمضان معانا
حتى دكتورها اسمه ( جورج )
كات تقول هاتولي جورج، عاوزة جورج
حتى من كتر المحبة
كان اخويا يقول لها :
طب ما نعقِدلك عليه .. ؟!
فجأة ضحكتها الحبيبة ترن تاني
تقول يا وااااد ، عيب اختشي …
الملافظ سعد يعني يا الوقار يا شفتشي !
هو ده هزار برضو يا بني
يللا قوم بقا ، هاتلي جورج…
كات بتدعم الاتحاد الاشتراكي
في اجتماعهم ف المدارس
ثورجيّة
لما مات ناصر كأنه كان أبوها
دمعها نازل نزييييف
جوم يعزوها الجيران
زي ما يكون العزا ف شارع السويفي رقم 8….
ياااااه يا امي
حاسه بيكي
كنتي نعمة ربنا اللي كان بيرزقنا عشانها
كنتي جنة واتحرمنا بدري منها .
ياااا حبيبتي
نفسي فيكي
نفسي أرجع طفلة تاني وتضربيني
كف حنية و حنان
وكف خوف
كف مسؤول عن حياتنا، عن اللي جاي
فاكرة يامه.. ؟!
لما كنتي تقولي : سمِّي وارقي نفسك
حُطي مصحف جوة جيبك
اوعي م التأخير لا الوشك
صوني نفسك
تمشي ف الشارع شاويش
فاهمة وللا ..؟
والبنات ف الجامعة حتى طلعوها عليا
كانوا لما يشوفوا ضللي
ف عز ضحكتهم يقولوا :
بس بس الشاويش شريفة جات ..
فاكرة يامَّا ؟ !
لما قلتي الشعر مايأكلش عيش
كنتي عارفه واحنا لأ
كنتي شايفة واحنا لأ
انتي ايه… ؟
ربنا منور بصيرتك .؟
وللا يعني اداكي علمه….؟
وللا إتعلمتي فين .؟
طول حياتي نفسي أكتب لك قصيدة
والقلم يعصاني دايما
كنتي أكبر من قصيدة
كنتي أكبر من ديوان
دانتي مايكفيش في وصفك 100 ديوان
كنتي تركيبة عجيبة م الشقا وبركان حنان
كنتي شموسة حياتنا وفاكهة نادرة
وضحكة على وش الغلابة
جابرة خاطر كل من خانه الزمان
كنتي حالة
واستحالة حد يعرف يوصفك
داحنا محتاجين لوصفك تُرجمان
كل فتفوته ف ملامحك
عاوزة قاموس المعاني
يا بديع نَص الأغاني ، يا سليلة أصفهان
كنتي .. كنتي … وياما كنتي
حتى بيتهوفن يقوللك دانتي بنتي
ما انتي معزوفة غيطان
كنتي تكعيبة وساقية ومهرجان
يا ملاكة في شكل انثى
كنتي لازم يتعمل لك صولجان
كنتي مفتاح نيل وهِلب ومجدافين وشمعدان
كنتي مفتاح القصيدة ف بيت يوحنا المعمدان
فالقصيدة دي لقلبك
لا لعقلك لاتزانك…
ياللي محفورة ف مكانك ، جوة قلبي
لا لإيدك ولعنيكي
للشهامة والكرامة ولجمال الابتسامة
القصيدة ليكي كُلك
دي الوحيدة اللي يمكن عارفه تحكي عن غرامي الحلو فيكي
هاتي صوتك ، صبَّريني
هاتي صوتك ، لمي دمعي ، لملميني
هاتي صوتك ، سمعيني
قولي تاني : انتي جيتي … ؟
خللي قلبي يهدا حبة
بيتعصر قلبي امّا اجيلك
وافتح الباب مالقاكيش
تستحق القصيدة دراسة مطولة، لكن الاستمتاع بالنص أفضل من كل نقد، وكما قال عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين:
(إن النص العبقري أكبر من جميع مفسريه)، تحية لهذه الشاعرة الرائعة والرائدة / شريفة السيد.