بقلم :: علي الهاشمي
مهداة إلى الفنانة الراحلة : فاطمة أحمد .. والكاتبة : سليمة بن نزهة .. والشاعرة : مبروكة الأحول .
في ليلة شتاء تكرمش فيها كل شيء … وندف الثلج الأبيض تقبب كل شيء … كان مغزلاً حليبياً ينبض … فيسبح في كون البيت بنغمات ذكرى حلم عميق لا يفسر يمزق فضاء كل حد .
*
حياة من نقطة ليبية .. غائرة في لحاف الزمن .. يجذبها المغزل من (أريتي القورينية)** ، وهي صاقرة على رأس (الجبل الأخضر) . في مدرستها الحجرية ، تفكر ، بمحبة ، كيف ، يمكن لتلاميذها ، أن يتنفسوا وهي ، هواءٌ طيب .
ـ الحرية لا تحد .
ـ هل ثمة شيء لا يحد ؟ يسأل أحد التلاميذ .
ـ الحرية ـ تجيب ـ وتنحد بذاتها .
ـ هل يعني هذا ، إنها تتجاوزنا ، تتعالى علينا ؟.
ـ بل هي تنبع من ذواتنا .
ـ وهل ذواتنا ، تكون حرة ، وهي تصيغ القانون ؟
ـ ذاتنا هي الحرية بذاتها ، ولا شيء غيرها .
*
إنتصف ليل ديسمبر والكرداش يمدَّ شعيراته في النطع ، والمغزل يعلو .. مفارقاً حِجراً ، أموياً دافيء .. ويهبط في شوق إليه ، منتشياً ، بلعاب (كريستوفا) وهي تحدد بأعجوبة أصابعها المزخرفة بالحبر ، حبل صرته الطويل ، الذي يربط السماء بالأرض في عودة رائعة للتزاوج من جديد …. تكتحل عينيها ، بمرودِه العنكبوتي الرقيق ، ولتتحرر ، من نشوقِ عبقه ، أساطير وخراريف ، وحكايات ، وقصص لا متناهية ، تنسجها طيبة وجمال وسفور ، وتبرُّج ، الجدّات الكريمات الأوائِلْ .
*
كانت (أريتي القورينية) في ربيع (قورينا)*** البارد ، تحرّك بعودٍ من شجرة اللوز ، رماد نار .. تدفأت عليه ، هي والتلاميذ ، في ذلك الصباح الباكر ، وعيونهم المتقدة ، تشرق على معاني يحتارون في كيف يمكن التعبير عنها ، والبيان لا يجاري الوجدان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فيلسوفة فرنسية ، وعالمة في التحليل النفسي واللسانيات .
**وتكتب “أريتا” وهي ابنة الفيلسوف ارستبوس القوريني ق.الرابع .م. وهي فيليوفة ومعلمة للفلسفة الطبيعية والأخلاقية .
***مدينة شحات .
*
تهتز أكوان (كريستوفا) ، مغتبطةٌ بفؤاد خاشع لصلاة إعداد حليب الصباح ، لها ولحفيدها الناعم في مهده القطني ، في بيتٍ يخترق السماء ، والمغزل قد جذبه حنين الحِجْر ، ليهبط مستريحاً في دفء ونعومة وعبق ، نطع صوف البدو الليبيين .
لم يزل النوم ، يدثر حفيدها ، وكامن في عينيه المغمضتين الركض وراء سرٍ دفين ، ليرى ما لم يره كائن ، وليعرف ما لم يعرفه الوجود ، بارقة ابتسامة يتيمة ، تجذبها من وجه الحياة في ذاتها وذات الآخرين ، فشَقَتْ جبل وجهها ، ليشرق سماح وجه حفيدها ، وهي تغطيه ، بما حاكته من لياليها المغزلية الدافئة الطويلة .
*
كانت ظلال (أريتي) وتلاميذها … تتكسر على صخور مترامية ، منثورة قدام المدرسة … بدت كرؤوس آلهة … جاءت من السماء واستقرت على الجبل ، من غير ملامح ، لوجوه شقتها الدهشة والبهجة .. في كبرياءٍ ساحر غريب ، لا يتأتى إلا من عقول أزلية .
يأخذ التلاميذ كلٌ منهم صخرة يجلس عليها أو يتكئ … والشمس ترسم على وجوههم رؤى (أريتي) وهي تشدُّ على مغزل التفكير وعناء التفلسف .
*
سَرَت (كريستوفا) تشق كون العالم ، تغطي ندف الثلج قبب جسدها النحيل ، ونار أغاني المغزل ، تتقد في روحها ، وأمم من طيور المعاني تدفع بها السوافل والنوازل .. وطاقات الفجر الفتي البهي ، عتبة تقف عليها ، وعلى حافة الوتر ، في عالم خيط من (إرادة الاغتنام) كما ذكر زوجها ذات ليلة . وتحول من النصوصية إلى اللصوصية ، من دنيا ضاع فيها ومنها النص ، وهي تحاول استعادته بمغزلها والكرداش .. تبحث عن هواء طيب تتنفسه ، ليتنشقه كل تلاميذ العالم .. تمس جبهتها من الإرهاق وتطرق على باب فؤادها المجهد . تتذكر شذى يغرقها ، يحل في ذاتها وهي تستمع بإمعان ، لسؤال إحدى التلميذات ، ورفيقها الجالس على كرسي البلاستك ، ينظر إليها ، وجهاز اللابتوب ، يرتمي في حجره مفتوحاً .
ـ وهل ثمة شيء لا يُحدْ ؟
ـ هل يعني هذا إنها تتجاوزنا وتتعالى علينا ؟
ـ بل هي ذواتنا ، سرُّ باطننا العجيب .
ـ وهل ذواتنا حرة لتصيغ الحدود ؟
ـ هي الحرية بذاتها ولا شيء غيرها .
تجيب كريستوفا