محمد عثمونة
الحرب كما يقال عنها ـ بأنها أعلى صيغ التدافع في ذروة تجليات تفاعله. والتدافع في عمومه ليس في الإمكان تحّيده عن معمعة الحياة فهو حاجة ضرورية لمسيرتها . إذ أنه الأداة الوحيدة التي لطاقتها القدرة على الدفع بعجلة الحياة للحركة والتقدم نحو سيرورتها . غير أنه ولكى يكون التدافع منتجا وبناءً في مخرجاته يجب العمل والاجتهاد على ترويضه ومن ثم احتوائه . من خلال خفض وتيرة أدائه إلى الدّرجة التي تُبعده وتُخرجه عن مراحل شططه الضار. من هنا ومن هذه الزاوية قد نرى في تعاطي الروس وتفاعلهم مع ما يدور ويحدث في أوكرانيا قبل اندلاع الحرب من خلال دعوتهم إلى إبعاد أوكرانيا عن التخندق والانحياز إلى ما قد يجعل من جغرافية أوكرانيا ميدان وساحة لعمليات قتالية . تسعى نُذر الحرب المُحلّقة فوق فضاء أوراسيا لتجعل منها واقعا محسوسا وملموسا سيطال الجميع بضرره ففي سلوكهم هذا قدر ظاهر من الالتزام تجاه الأمن والسلم الدولييْن. ولكن وعندما أحس الروس بعزوف الأوكراني عن التعاطي الإيجابي مع طرحهم لاحتواء الحرب ومن بعد ترويضها ونزع فتيلها . شرع الروس بالذهاب إليها بالزحف نحوها بفعل وعمل استباقي تحسبا قبل أن تأتي إليهم . وتجعل من جغرافية بلادهم أتون وساحة عمليات لها. قد ظهر – وأقول ذلك وبموضوعية – في مقاربة الروس لاحتواء الحرب الأوكرانية قبل وقوعها . نضج عالٍ وواقعية مسؤولة . ويرجع ذلك في تقديري إلى اعتمادهم حقائق الجغرافيا متكأ لطرح مقاربتهم في حين كان كل متابع موضوعي لإرهاصات الحرب. يلاحظ أن الخندق الأوكراني كان يسعى نحو القفز من على الحقائق الجغرافية إلى ما بعد الجغرافيا . وقد أفقد ذلك الأوكراني القدرة على التحسس الذاتي لواقعه الإقليمي الذي به قد يتمكن من التعاطي مع مُحيطه بقدر واقعي ومقبول . قد يُبعده عن الإضرار بكيانه وبمحيطها الجغرافي أيضا و يرفع من منسوب الفائدة المشتركة بينهما ويساهم بذلك وعلى نحو غير مباشر في زيادة مساحة الأمن والسلم الدوليين على رقعة هذ العالم البائس. كنت أحاول الوصول بالقول إن القفز من على حقائق الجغرافيا والاستخفاف بها هو وجه من وجوه اجتثاث الكيانات من أقاليمها وفضاءاتها الجغرافية . وهذا قد يدفع عاجلا أم آجلا إلى حافة حرب مدمرة قد تكون غير تقليدية كما نشاهده يحدث صوتا وصورة بأوكرانيا . أو إلى زرع بؤر توتر تٌربك الأمن والسلم الدوليين . كما حدث ويحدث مع الوعاء الجغرافي الليبي الذي تمكن عرّاب مؤتمر الصخيرات – ولأمر في نفسه – من جعله وعاء تعمه الفوضى من خلال توظيف عائدات موارد ليبيا الطبيعية وطاقاتها البشرية وموقعها الجغرافي الجيد لتكون به البلاد بؤرة لزرع ونشر القلاقل واللااستقرار بإقليم شمال غرب أفريقيا وحوض المتوسط الحيوي على يد أتباع المرشد العام وملحقاته. بعدما استجلبهم هذا العراب وتوابعهم وتمكن من تمريرهم عبر بوابة مؤتمر الصخيرات إلى داخل المشهد الليبي.
جاعلا منهم لاعبا رئيسيا على ساحته بعدما أضفى عليهم وحصّنهم بشرعية دولية ممهورة بختم الهيئة الأممية بل ووقف مدافع عنهم وبجرأة غريبة في عديد المرات. شاهرة هذه الشرعية الدولية في وجه محاولات الليبيين المتكررة المُطالِبة بوقف التدهور والانهيار الذي دفع ويدفع ولازال ببلادهم نحو الهاوية . وكانت آخر محاولاته هذه جاءت على لسان سفيرة الإنجليز بطرابلس. بإعلانها عدم قبول بلادها التي تتولى إدارة الملف الليبي داخل مجلس الأمن بنتائج الجهود المحلّية التي انتهت إلى تفكيك وكسر ثنائية غرب شرق البلاد هذه الثنائية التي كانت تغذي حربا ألحقت بليبيا والليبيين ومحيطها الإقليمي وحوض المتوسط الضرر الكثير . وكأن هذه السفيرة العتيدة تقوم بكل هذا ولسان حالها يردد ويقول لدى دولتي تفويض وشرعيّة دولية لإدارة الملف الليبي داخل مجلس الأمن كما تشتهي وكيف تُريد حتى وإن كان في ذلك تنكيل بالليبيين أو جاء منافيا للمواثيق الدولية ولا يخدم توجهات الهيئة المكلفة أمميا بإشاعة الأمن والسلم الدوليين على اتساع رقعة هذا العالم البائس . وكأن السيدة السفيرة لا تعرف بأن هذا السلوك من دواعي خلق احتقان كبير في نفوس الناس وفي هذا بعث وتخليق عاجلا أم آجلا لبيئة جيدة ومناسبة لنشأة ونمو وترعرع حالات ما يُعرف بالذئاب المنفردة وكما يقال ولا ينبئك مثل خبير. وبهذه التصريحات والمواقف الغريبة التي تبتعد ببلادها عن السلوك المسؤول تجاه الأمن والسلم الدوليين نتبيّن بأنها مٌنحازة دونما تحفّظ إلى ديمومة الحرب واستمرارها والمدهش والملفت أن حكومة دولة السفيرة تظهر وبوضوح تام لكل متابع لأحداث الحرب الأوكرانية . بأنها ومن خلال مواقفها من أكثر الدول رغبة في استمرار الحرب والتحريض في اتجاه الدفع بالحرب قُدُما لتكون أكثر تعقيدا . والغريب في كل هذا أن الهيئة الأممية التي تسعى وتطمح إلى تغليب مفردة الأمن والسلم الدوليين على نقيضهما لازالت تذهب وبدون تروٍّ نحو تكليف أصحاب هذا التوجه بتفكيك ملفات مأزومة ومنها الملف الليبي وإدارة تعقيداته داخل أروقة مجلس الأمن وهذا لا ينسجم مع نزوع أصحاب هذا التوجه نحو الحرب وسيكون وبالضرورة ما بيدها من ملفات ضحيّة لهذا الميل العدائي وفي الغالب لا يسلم ما بيدها من التفخيخ , الذي في وجه من وجوهه نقيض للتفكيك المأمول للمستعصيات التي تعصف بالعالم. كنت أحاول القول من مجمل ما تقدم إن مقاربات الهيئة الأممية في محاولاتها العديدة لتفكيك التأزمات الدولية لا يجب أن تتخطى في محاولاتها هذه الواقع الجغرافي بل حتى الديمغرافي والثقافي لما بين يديها من ملفات تعاني من اختناقات وتأزم دولي يحتاج للمعالجة. عندها – وفي تقديري – وبهذا التغافل نكون قد شرعنا في تحول هذه الاختناقات إلى مناطق حروب كما يحدث في أوكرانيا أو بؤر توتر إقليمية كما هو قائم في ليبيا. فاعتماد الجغرافيات كأحد الركائز الهامة لاحتواء النزاعات الدولية خطوة أساسية في الاتجاه الصحيح لأنها تذهب بالكيانات المأزومة نحو تثبيتها وتقعيدها وتجذيرها داخل فضاءاتها الطبيعية وفي تقديري أيضا يجب على الهيئة الأممية الابتعاد عن وضع هذه الملفات المأزومة بين أيادٍ ذات نزعية عدائية مَرَضيّة. فهذا لا يساعد على تفكيكها وقد يذهب بها إلى درجات أكثر تعقيدا. كما نشاهده يحدث بليبيا. *الملف الليبي يُدار داخل مجلس الأمن من طرف العضوية الدائمة لبريطانيا كما جاء في تصريح أحد أعضاء البعثة الليبية بالهيئة الأممية. في لقاء مُتلفز مع الأشهر الأولى للانتفاضة.