محمد عبدالرحمن شحاتة
–أنت!
انتبهتُ إلى الصوت الذي تسلَّلَ إلى أذنيَّ، نظرتُ فإذا بوجهِ رجلٍ في السِّتين من عمرهِ يلوحُ أمامي، لكن ما أدهشني أنه ناداني بهذهِ الطريقةِ المجرَّدةِ من التقدير، هو لا يعرفُ اسمي بالطبع، لأنه يراني وأراهُ أيضًا للمرَّةِ الأولى.
ثمَّ استنكرتُ جلوسه بجواري، هو مقهى على أيةِ حالٍ، لكن ذلكَ لا يمنحه حقَّ الجلوسِ على طاولتي، هناكَ طاولاتٌ أخرى شاغرة، فالمقهى قابعٌ على الطريقِ السريع، بالقربِ من قريةٍ صغيرة لا تتجاوز الثلاثين بيتًا، منذُ أسبوعٍ وأنا أمرُّ من هنا، بعدَ أن تسلَّمت العملَ كسائقٍ على ذلكَ الخَط، بديلًا عن زميلٍ لي حصل على إجازةٍ طارئة؛ لذلكَ اتخذتُ من ذلكَ المقهى استراحةً، في كلِّ مرةٍ أتوقَّفُ أمامه ثمَّ أغادرُ السيارةَ كي أتناولَ كوبَ قهوةٍ يمنحني بعضَ اليقظة، لم أرَه مكتظًّا ولو لمرةٍ واحدة، فقط يجلسُ عليه شخصان أراهما في كلِّ مرةٍ لي هنا، ربما رَغِبَا في إراحةِ ظهرهِما من عناءِ القيادة، وصادفَ وجودهما وجودي في كلِّ مرة، أو ربما هما من أهلِ القريةِ القريبةِ ويجلسانِ هنا كلَّ ليلة.
كل ذلكَ كان يدورُ في عقلي بينما أختلسُ النظراتِ إلى الرجل الذي جلسَ بجواري صامتًا، يشبكُ أصابعَ كفَّيه ويحدِّقُ فيهم. لا أعرفُ لماذا لم أقوَ على سؤالهِ عن سببِ مناداتهِ لي بتلكَ الطريقة، ولا لماذا اختارَ طاولتي من بين طاولاتِ المقهى كي يجلسَ عليها.
أمعنَ في صمتِه وأمعنتُ في تفكيري، كُنتُ أرتشفُ آخر ما في كوبِ القهوةٍ الذي بيدي، وما إن انتهيتُ من الكوبِ فوضعته فوقَ الطاولةِ حتى سَعلَ سعالًا خفيفًا مُفتعلًا، نظرتُ إليه فإذا بهِ يحدِّقُ في وجهي، لم يكن لديَّ ما أتفوَّهُ بهِ، خشيتُ أن يطولَ الصمتُ لكنه اختصرَ تلكَ المسافةَ فيما بيننا، حينَ قالَ بنبرةٍ ودودةٍ غير تلك التي ناداني بها:
–هل تلكَ هي المرةُ الأولى لك على مقهى “سِمسِم”؟
كتمتُ ضحكةً كادت تنفلتُ منِّي، وقلتُ:
-“سِمسِم”؟ اسمٌ طفوليٌّ، من أينَ جئتَ بهِ خاصةً وأن المقهى بلا لافتةٍ تحملُ اسمَه؟
قالَ بلا تردُّدٍ:
–هذا المقهى معروفٌ، ولا يحتاجُ إلى لافتةٍ، فإذا لم تَعرفه فأنت جديدٌ هنا.
–أنت مُحِقٌّ، إنه الأسبوعُ الأولُ لي على هذا الخَط.
–لذلكَ أنت لا تعرفُ اسمَ المقهى.
قلتُ وقد صاحبَت ردِّي إيماءةٌ برأسي:
–ربما.
حتى الآن لا أعرفُ لماذا يتحدَّثُ إليَّ، ألقيتُ نظرةً عابرةً على المقهى فوجدته خاليًا، لا أعرفُ أينَ ذهبَ الشخصان، ربما غادرا دونَ أن أشعر؛ لذلكَ لم يبقَ سوايَ وذلكَ الرجل، كدتُ أغادرُ لولا أن عاودَ حديثه قائلًا:
–ما اسمُكَ؟
بعد لحظاتٍ من الصمتِ الممتزجِ بالنظرِ إليه قلتُ:
-“رشيد“.
أجابني بإيماءةٍ صامتةٍ ولم يُفصِح عن أكثر من ذلكَ؛ فقلتُ وقد اتبعتُ فضولي:
–وما هو اسمُكَ أيضًا؟
-“سَمير“.
لم يمنحني فرصةً لحديثٍ آخر، فقالَ مُتسائلًا:
–هل تُدخِّن أم أنكَ تجلسُ على المقهي كي تحتسي القهوةَ فقط؟
تذكرتُ أنني لستُ مدخِّنًا شرسًا، لكني أحمل سجائري المفضلةِ معي، وقدَّاحَتي التي أستخدمها في أغراضٍ أخرى غير إشعالِ السجائر، فقلتُ مُبتسمًا:
–لا أدخنُ كثيرًا، ولكن إن أردتَ سيجارةً فلديَّ علبةٌ.
مدَّ الرجلُ يدَه إليَّ، لقد بدت أصابعه وهي ترتعشُ وكأنَّه بحاجةٍ إلى التدخين، لذلكَ لم أنتظر أن يطلبَ بطريقةٍ مباشرة، فكانت يده الممتدة تغني عن ذلك. وضعتُ يدي في جيبِ مِعطفي وأخرجتُ العلبةَ، نزعتُ عنها غطاءَها ومددتُها باتجاهه؛ فتناولَ سيجارةً بأصابعهِ المرتعشةِ، ثمَّ أخرجتُ القداحةَ وأشعلتُ لهُ السيجارةَ؛ فأخذَ نفسًا عميقًا وهو يغمضُ عينيه، وكأنَّه لم يُدخِّن منذُ زمنٍ طويل، ثمَّ أرخى رأسَه إلى الوراء وقد أسنده إلى الحائط، تعجبتُ من ذلكَ العجوز الذي لم أعرف عنه سوى اسمه، ولا أعرفُ لماذا منحته كل ذلكَ الوقت حتى الآن. أعدتُ علبةَ السجائرِ إلى جيبِ معطفي، ثمَّ نظرتُ إلى الناحيةِ الأخرى باحثًا عن صبيِّ المقهى، ولكني حينما عاودت النظر إلى العجوزِ النائم أصابتني ارتعاشةٌ مفاجئة.
لم يكُن العجوزُ جالسًا في مكانه، تعجبت كيفَ اختفى من المكانِ في لحظاتٍ قليلة، كدتُ أبتلعُ المقهى بعينيَّ لكني لم أجد له أثرًا، حتى صبي المقهى كانَ كالذي انشقت الأرضُ فابتلعته!
صحتُ بصوتٍ عالٍ كي يسمعني، كُنت أقولُ حينها:
–الحِساب؛ فأنا أودُّ المغادرة.
بعدَ وقتٍ لم أفكر فيه إن كان طويلًا أم قصيرًا؛ فقد كان رأسي منشغلًا بأمر العجوز، سمعتُ دبيبَ خطواتٍ قادمةٍ من ورائي، نظرتُ فإذا بي أتقهقرُ للوراء، كان جسدي يرتعدُ كما لو أن ماءً باردًا سُكِبَ فوقَه في ليلةٍ باردةٍ كهذه، لقد كان صبي المقهى، لكنه كان يحمل وجهَ العجوز، فشعرتُ بأنَّ العجوزَ قد بدَّلَ ثيابه معه.
وقفتُ لا أعي ما يحدثُ، ثمَّ دفعني الخوفُ إلى أن أُلقي بالنقودِ إليهِ قبلَ أن أغادرَ المقهى ركضًا.
لمَّا اقتربتُ من سيارتي الواقفةِ على جانبِ الطريق، عاودتُ النظرَ إلى المقهى، لقد كان مُظلمًا ومهجورًا وكأني لم أغادره منذُ لحظاتٍ فقط!
دخلتُ السيارةَ ثمَّ أغلقتُ البابَ خلفي، حينها سمعتُ رنينَ هاتفي، كان لايزالُ داخلَ كابينة السيارة ولم أصطحبه إلى المقهى معي، ولمَّا تناولته لاحظتُ رناتٍ عديدةٍ، كان زميلي الذي حصلَ على إجازةٍ طارئة، عاودتُ الاتصالَ بهِ، ولمَّا أجابَني قال:
–كيفَ حالك يا “رشيد”؟
ابتلعتُ ريقي كي أستعيدَ هدوئي وقلتُ:
–بخير، كيفَ تصيرُ الأمور معك؟
–ليست على ما يرام ولكن سوفَ أعودُ إلى العملِ قريبًا.
ثمَّ أخذني الصمتُ فأردَف…
–علمتُ منذُ قليلٍ أنكَ من استلمتَ العملَ نيابةً عنِّي.
قلتُ بهدوءٍ وعيناي تنظرانِ إلى المقهى المظلمِ:
–هذا صحيح.
–فقط أحببتُ أن أنبِّهك؛ هناكَ مقهى على الطريق يبعدُ قليلًا عن قريةٍ صغيرة، رجاءً لا تقترب منه ولا تتوقَّف في ذلكَ المكانِ مهما حدث، لقد انشغلتُ في أموري ونسيت أن أحذِّرَ من سيعمل نيابةً عنِّي.
لوهلةٍ دارَ ما حدثَ معي أمامَ عينيَّ، لكني أحببتُ أن يوضِّحَ لي أكثر، فهو يعمل على ذلكَ الخط منذُ سنواتٍ طويلة، فقلتُ متسائلًا:
–ما قصةُ ذلكَ المقهى؟
–مهجورٌ يا زميلي، مسكونٌ بروحِ صاحبه الذي يُدعى “سمير”، وبروحِ اثنينِ معه، كان روَّادُ الطريق يطلقون على صاحبه اسم “سِمسِم”؛ لذلكَ اشتهرَ المقهى بذلكَ الاسم، حتى حدثَ الحريقُ الذي التهمَ المقهى وصاحبَه، لقد انفجرَت اسطوانةُ الغازِ فقتلته هو واثنين كانا يجلسانِ حينها.
ثمَّ تنهَّدَ قليلًا وأردفَ…
–لقد كانَ يومًا قاسيًا لا يُنسى، منذً ذلكَ الحين والمقهى مسكونٌ بأرواحهم، السائقون القُدامى يعرفونَ ذلكَ، لكن الأرواحُ التي تسكنُ المقهى تضلِّلُ السائقينَ الجُدد، أحيانًا يُخيَّلُ إليهم أن المقهى يعمل، إلى أن يصطدمونَ بالواقعِ المريرِ فيه.
بقيتُ صامتًا ولم أُعقِّب، حتى أن زميلي قد لاحظَ صمتي فقال:
–هل صادفكَ شيءٌ هناك؟
انتفضتُ وكأنَّ شيئًا حادًا وخزَني في جسدي، فقلتُ وقد ظهرَ الارتباكُ في نبرتي:
–لا.. لَم يحدث شيء معي، لم أنتبه إلى ذلكَ المكان الذي تتحدَّثُ عنه.
نعم أنكرتُ ما حدثَ معي، ربما هروبًا من الخوفِ الذي نَهَشَني، ثمَّ أنهيتُ المكالمةَ بعد أن طلبَ منِّي أن أنتبهَ إلى نفسي. أدرتُ مُحرِّكَ السيارة ثمَّ انتظرتُ حتى تتغلَّبَ حرارته على الصقيع الذي ابتلعَه، ولمَّا تهيَّأتُ للتحرُّكِ أضأتُ كشَّافات السيارة. غادرتُ المكانَ لأكملَ طريقي، وفي المرآةِ الجانبيةِ اليُمنى، كان المَقهى يلوحُ فيها وهو يبتعد، لكن صاحبَ المقهى كان لايزالُ هناكَ، واقفًا ينظرُ إلى السيارةِ، أو ربما يتربَّصُ بسائقٍ جديدٍ لم يعرف حكايةَ المقهى بعد!