منذ خمسين يناير  وروعة الطيران

منذ خمسين يناير  وروعة الطيران

عائشة الأصفر

وفي يوم تدريب عادي وصلتُ حظيرة الطائرات، لكن على غير العادة غاب يومها مدربي الفرنسي “مارتان” إثر  وعكة، “مارتان” المسكون بالهدوء المتسرب في مشيته وبسمته وتدريبه.  ليفاجأني رفيقه البديل  بضحكته العالية وبلكنة تنطق بالمرح الصارخ،  وبإشارة منه إلى طائرتي الصغيرة فهمت أنه يتوعدني بتدريب قاس لم أعرفه مع مدربي الجنتل “مارتان”.

يغني جنبي بلا انضباط ويتتبع يدي مع المقود وأنا أسير باتجاه ممر الإقلاع مرعوبة.. وما إن وصلناه حتى انتزعه ضاحكا، وزاد من باور الطائرة نحو السماء ، إننا على الفضاء الشرقي لسبها. وعلى ارتفاع لم يسبق لمدربي “مارتان”.. بدأ بحركات بهلوانية استعراضية بالطائرة أرعبتني وخمنت نهايتي، على ارتفاع شاهق أكرر ما  يطلبه مني برفع خشم الطائرة حتى تنام في الجو على ظهرها فتقل سرعتها كثيرا، لابد حينها من العودة بها أفقيا ثم إنزال الطائرة على رأسها عموديا حتى تزيد سرعتها وتعود إلى الوضع المطلوب. فهمت منه حينها السبب في ارتفاعه بالطائرة غير المسبوق. فهو الارتفاع اللازم لمثل هذه الحركات من التدريب.. أمرني المدرب الشجاع أو المتهور بالهبوط والإقلاع مرات ومرات (في الجو) فوق الطريق الشرقي المعبد الرابط بين سبها وتمنهنت.. أهبط حتى أكاد ألمس طريق السيارات.. وأقلع سريعا قبل ذلك.. كنت أشاهدها وهى تخرج هاربة من الطريق. لا شك لإتاحة هبوط اضطراري متوقع. لم يخطر ببال عاقل أنه تصرف مدرب استثنائي متهور لكنه ماهر.. أعيدُ ما يطلبه مني..  فيرفع يديه ويصرخ فرحا ويغني.. يلتفت .. هيا عودي للمطار.. لا زال جنبي.. اهبطي.. أقلعي ثانية.. اهبطي.. قفي هنا.. وقفت عند أحد المداخل.. قفز وتركني وحدي. مدّ وجهه وهو مستمر في الضحك وسألني ببرود: هل تطيرين وحدك؟ كان السؤال الأصعب.. توقف التفكير.. وغمتني بلاهة..  وإجابة نعم أطير. سحب سقف الطائرة بقوة وأقفلها عليّ وابتعد ملوحا لي.. كانت أصعب الخطوات المشوبة بالارتباك والخوف والسعادة والرهبة ومواجهة مصير غامض وتفكير ربما غير مسؤول مني ولا من المدرب. كأن معي يدا أخرى هي التي سلّمتُها أمر القيادة.. دفعتُ  باور الطائرة وكدت أغمض عيني اللتين زاد اتساعها واتساع قلبي وأجنحتي ونبضي .. ومع أول إقلاع. ترتفع أضلاعي، وأنا أرى سبها وكل العالم تحتي. واسترخاء ربما مرضي..  وكل شيء بعيد إلا الشمس.. هي لحظات انعتاق.. وسعادة،  وتماسك لا أظنه ينبئ أنني بخير.. نبهني منه  الهبوط الأول وأنا أقترب من المهبط.. يا إلهي.. وكأني لم أهبط منذ دقائق بسهولة والمدرب يغني.. هل أنا بحاجة لتصفيقه لأهبط؟ ارتبكت جدا وأنا أكاد أصل المهبط الأسود وصورة التراب تتلاشى تحتي ومن شدة خوفي أن أخطئ المهبط نحو التراب لم أهبط حتى تأكدت من أني فوق المهبط، فكانت الكارثة أن الهبوط كان في منتصف المهبط.. كانت لحظة حاسمة وقاتلة وعليّ إيقاف الطائرة قبل أن تنقلب وتتحطم على التراب امتداد الممر المخصص.. هذه التفاصيل الطويلة مثل كابوس لم تستغرق إلا ثوان.. وكان أسرع قرار مصيري اتخذته في حياتي، وهو باور قوي ودفع الطائرة للإقلاع ثانية فور وصولها الأسفلت .. لم ألحق أن أخبر البرج كما اتفق (آم ردي تو تك اوف)..أقلعت بلا قلب وبلا مشاعر .. ووحده الله رفيقي.. كان قلبي ومشاعري ومدبري ومدربي الأقرب إليّ من نبضي.. في الجو استدرت وتوازيت كما يجب مع مهبط المطار،  ها أنا استدير ثانية،  وثانية نحو المهبط من جديد، وكان الهبوط هذه المرة بسلام.. ووجدت الفرنسي الاستثناء في انتظاري.. مع الطيارين الليبيين وموظفي المطار بين فرح وقلق وهم يخبرونه أن هذه الفتاة لم تصل الساعات المطلوبة للطيران. وأنك جازفت بطيرانها.. لكنه ضحك. فاردا ذراعيه ويردد.. لكنها طارت.. لكنها طارت.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :