- محمود السوكني
لست أعلم مصدر كل هذا الخوف ، ومن أين يآتى ! ولماذا يتملكني عند إقتراب موعد قدوم الوافد الجديد على الأسرة !
قد يكون هذا غريباً ، و قد يوصف بالتفكير الشاذ ، و لكنها الحقيقة فبقدر سعادتي بقرب ميلاد طفل جديد في العائلة كنت أُخفي في داخلي خوفا على مصيره ! كيف ستكون هيئته ؟ و هل سيولد معاقاً ذهنياً ؟ أو لديه تشوه في بعض أطرافه ؟ لا شك أنها حكمة الله سبحانه ، و هي قدر لا يمكن أن أهرب منه ، لكن العلم يقول إنني قد أكون مشاركاً فيه ، أو سبباً في حدوثه !!
لقد اكدت الأبحاث العلمية منذ زمن بعيد على خطورة زواج الأقارب و رغم أن الدين الاسلامي يبيحه في نطاقه المحدود ، إلا أنه لا ينفي اللجوء إلى العلم ، و الرجوع إلى ذوي الاختصاص في هذا الشان و تلمس المشورة الطبية قبل الإقدام على الشراكة الزوجية ، بإجراء الكشوفات اللازمة بمنتهي الدقة و الشفافية منعاً لحدوث أي ولادات مصابة ، أو تحمل أمراض وراثية يصعب علاجها ، و تكون سبباً في حياة تعيسة لأصحابها و ذويهم .
ليست هذه قضية شخصية ، و ليست شأناً محلياً محضاً ، و لكنها أزمة تعاني منها العديد من الشعوب التي تعقد فيها زيجات الأقارب ، و يغيب فيها الحرص الكافي على إجراء الفحوصات اللازمة قبل الإذن بإتمامها .
قد لا تسعفنا هذه المساحة ، و لا المعلومات الشحيحة من الخوض في هذه المشكلة على مستوى العالم ، و لكننا قلقون على آثارها التي تحدثها محلياً ، و هو ما يدعونا إلى مناشدة المختصين بايلائها العناية الكافية و الاهتمام الوافر ، خاصة و أنه لاتوجد – کما هي عادتنا – إحصائيات رسمية لعدد هذه الزيجات ، و الحالات المرضية التي نتجت عنها ، و ماهي طبيعتها ، ومدی إمكانية معالجتها ؟! وهل بالإمكان تفاديها ؟
إن عادة التزاوج بين الأقارب مستفحلة في المجتمع الليبي ، خاصة في القرى و الأرياف و مدن الدواخل و كثيرة هي عقود الزواج التي أبرمت شفوية بين الأهل منذ ولادة طرفيها و في أحسن الأحوال منذ نعومة أظافرهم !!
و لا نذيع سراً عندما نعلن أن الشهائد الصحية التي تصدر في هذه الزيجات – هذا إذا ماصدرت أصلاً ! – لا تعبر حقيقة عن الحالة الصحية لأطرافها فهی كغيرها من الشهادات المضروبة التي تشترى أو تصرف بدون وجه حق !!
و ..حتى و إن افترضنا جدلاً صدق من أعد هذه الشهادات فإنها لا تتحرى الدقة و لا تستوفي شروطها المطلوبة !
إن أهم شرط لإصدار الشهادة الصحية التي يعتمد عليها في الإذن بعقد أي زيجة يجب أن تؤسس على التشخيص الدقيق و المبني على أسس علمية و الذي يبحث التاريخ العائلي للمعني و تاريخه الطبي و إجراء فحص سريري و تحاليل معملية دقيقة عن طريق معمل ذو إمكانيات عالية لتحليل الجينات و الصبغيات و الحمض الأميني .
و أنا أجزم أنه لم تنجز شهادة صحية واحدة بهذه المواصفات لأي عقد زواج سابق ولست متفائلاً بحدوث ذلك في المستقبل القريب !!
ولهذا نصادف العديد من الحالات المشوهة و الكثير من الولادات المعاقة التي تسبب في حدوثها جينات الزوجين ، أو إحداهما دون أن نكلف أنفسنا عناء مواجهة ذلك و الحد منه !
الأشد فظاعة من ذلك ، أن الزيجات التي ترزء بمثل هذه الحالات لا تتوقف عن الإنجاب و لا تصيغ آذانها لصوت العقل و لا تأبه بما يقوله العلم و تركن إلى الاستسلام إلى القدر و المكتوب .. وهي من (صنعت) هذا القدر ، و هي من ساهمت في هذا المكتوب !
ليس للقدر دور في هذا ، و لا هو المكتوب الذي حمّلنا هذا الإثم ، بل هو الجهل الذي لا نعترف به و الذي يعشش في عقولنا و يتحكم في تفكيرنا ، و يحکم تصرفاتنا !
إنني أدعو إلى منع إجازة أي زيجة لا يخضع طرفاها إلى فحص طبي كامل ، و على أيدي مختصين ذوي كفاءة يتحلون بالنزاهة و يتبعون جهة معترف بها ، و مشهود لها بالصدق و دقة التحري ، و شفافية القرار ، وقد قيل لي أن هناك دراسة علميّة واعية جديرة بالاهتمام والرعاية عن “المشورة الوراثية” تستحق أن تعمم ، و يصار إلى تنفيذها ، و التقيد بما جاء فيها ، و نحن نتطلع إلى أجيال واعدة تتمتع بصحة جيدة يبني على كاهلها مستقبل زاهر لهذا الوطن .














