بقلم :: عبد الرحمن جماعة
الحقيقة لا تُوجد عارية، والإنسان لا يُمكنه أن يتعرى حتى أمام نفسه، فالنفس البشرية أكبر مصنع للأغطية والأغلفة والقشور.
والمجانين الذين نراهم يجوبون الشوارع هم أناس دفعهم فضولهم لرؤية ما تحت أغلفة نفوسهم، ومواجهتها بحقيقتها.
إن محاولة تجريد النفس من ثيابها غالباً ما تقود إما إلى الجنون، وإما إلى الانتحار، وقليل هم الذين تقبلوا الصدمة فصاروا حكماء زمانهم.
إن قدرة النفس على نسج الأغلفة لا تكمن في جعل هذه الأغلفة عدة طبقات فحسب، بل في جعل هذه الطبقات غالباً مخفية وغير مرئية، ومموهة بدرجة يصعب اكتشافها.
يمكنك أن تقرأ ذلك في حديثنا عن أنفسنا: “أنا عندي الحق حق”، “أنا لا أجامل في الحق”، “أنا أقول للأعور أعور في عينه”، ” أكبر عيوبي الطيبة الزائدة” إلى آخر الشعارات التي نمضغها نحن سكان أنفسنا، وقاطني ذواتنا!
وهذه الشعارات ليست معدة لخداع الآخرين، بل هي وسائل دفاعية تخترعها النفس لتدافع بها بنفسها عن نفسها أمام نفسها، ولتجعل الإنسان أكثر توازناً، وليستمر في حياته الدودية كرقم، ولتمكنه من التعكز على نفسه العرجاء ليصل إلى آخر الطريق المرسوم له بعناية، كنسخة مكررة عن آلاف النسخ تظن نفسها النسخة الوحيدة والفريدة!
مثال آخر..
اقرأ أي كتاب سيرة ذاتية لأي شخصية عربية، ثم اقرأ سيرة ذاتية لشخصية غربية، وستلاحظ الآتي:
سيرة العربي من أول سطر حتى آخر سطر، أو منذ ولادته حتى تاريخ كتابته لسيرته، ستجدها سلسلة مترابطة الحلقات من البطولات والأمجاد، ولا وجود فيها لذرة فشل أو إخفاق أو تعثر أو هزيمة أو تراجع أو نكوص أو تخاذل أو جُبن، والأدهى من كل ذلك أن شخصه الكريم مُبرأ من العيوب، منزه عن النقائص، خالٍ من المثالب، مجرد من كل سوء، وكأنه خُلق بمشيئته.
أما عن سيرة الغربي فأقل ما يُقال فيها أنها قريبة من الواقع، بعيدة عن الخيال.
وهذا لا يعني الجزم بأن الغربيين لا يكذبون في سيرهم، لكنهم حتى وإن كذبوا؛ فإن كذبهم من النوع الذي يحترم عقل القارئ، ولا يستهين بمداركه وقدراته.
وهذا أيضاً لا يعني أن أصحاب السير العرب يتعمدون الكذب على القارئ، بل إنهم يكذبون على أنفسهم، ويُصدقون أنفسهم في كل حرفٍ قالوه، وفي كل كلمة كتبوها.
فالمرء يتلبس بأقاويله لباساً تلو اللباس، ويتغلف بشعاراته شعاراً إثر الشعار، ويتدثر بطبقات ظنونه طبقة فوق طبقة.
ثم ينسج شخصيته ويُركز ذاته ويبني علاقاته على ذلك الركام من الظنون، فتصبح ذاته معلقة بها، مشدودة إليها، مرتكزة عليها.
فلو سقطت لسقط، ولو انهارت لانهار، حتى تصير أية محاولة للتعري أو التجرد هي أيضاً خدعة من خُدع النفس، وحيلة من حيلها، ولعبة من الاعيبها.
أيها الإنسان..
لكي تكتسي ثياباً جديدة نظيفة؛ عليك ان تخلع ثيابك القديمة، وتتعرى تماماً!
ولكي تُصلح جهازاً ما؛ عليك أن تقضَّه قُضّة قُضّة،وتُفككه قطعة قطعة!
ولكي تُنظف بيتك؛ عليك أن تقتنع بأنه متسخ!
ولكي تُعالج مرضك؛ عليك أن تعترف – على الأقل أمام طبيبك – أنك مريض!.
إن تشخيص المرض هو أول خطوات علاجه، وإن الصراحة هي الفراش الوثير الذي يستريح عليه الإنسان المتصالح مع نفسه، والمنسجم مع ذاته، وإن الشفافية هي أهم شرط من شروط وضوح الرؤية وجلاء الأبصار!
أيها الناس!
الكشف الكشف، والوضوح الوضوح، والصراحة الصراحة، فكل لحظة إغفاءة هي مسافات تضيع، وكل ساعة غفلة لا يُجدي معها ترقيع، وكل يومٍ يمرُّ لا يقبل الترجيع، فمن كذب فإنما يكذب على نفسه، ومن غشَّ فإنما يغش ذاته، ومن دسَّ دسيسة فسيظهرها منقار طير أو حافر حافر!
أيها الليبيون!
كاشفوا لتفلحوا، وصارحوا لتنجحوا، فإنكم لا يمكن أن تكونوا أنتم حتى تعرفوا من أنتم، ولا يُمكنكم أن تعرفوا من أنتم حتى تتجردوا من أوهامكم وظنونكم، ولا يُمكنكم ان تتجردوا من أوهامكم وظنونكم حتى تكونوا مستعدين لتقبل الإجابة الصادمة على سؤال: (من أنتم؟!).