بعد تخرجي وحصولي على أستاذية/باكالوريوس الترجمة الفورية، عملت كإداريّ ومدرّس معوّض في مدرسة ابتدائية خاصّة. لم تدم التجربة أكثر من شهرين قبل أن أقدّم استقالتي وأوافق على عرض شغل في العاصمة الليبية طرابلس مع نهاية سنة 2010
أعلمت أهلي واقترضت منهم بعض المال أضفته إلى مرتبي الضّعيف وقصدت محطّة القطار. لم يكن لي الأموال الكافية لأسافر في رحلة مباشرة على متن السّيارات التي تنطلق من تونس العاصمة أو المدن الأخرى أو الحافلة أو الطائرة…
انطلقت الرحلة من محطة “بير بورڨبة” في قطار قادم من تونس ومتجه إلى ڨابس. خلال الرّحلة تعرّفت على أستاذين جامعيّين آنسا رحلتي وأصبح أحدهما لاحقا حريفا ترجمت له أجزاء من رسالة الدكتوراه في فنون العمارة وكان بحثه يهتمّ بالمباني وواجهاتها وخاصّة منها المرتبطة بالفترة الإستعمارية الفرنسية التي أثرت أيما تأثير في الطابع المعماري التونسي الحديث إلى جانب الطابع العربي والأندلسي بطبيعة الحال قبل وفود الأنماط المعمارية الحديثة التي شوهت أصالة بعض الشوارع التي أخصّ بالذكر منها شارع الحبيب بورڨيبة أو شارع الثورة.
تواصلت الرحلة بالتمام والكمال سبع ساعات. وصلت إلى ڨابس في ساعات الفجر الأول منهك القوى والتعب قد أخذ مني أي مأخذ. عالجت نفسي بقهوة مركّزة طويلة وبعض السجائر ومن ثمة توجّهت إلى محطّة سيارات الأجرة لأواصل المسير نحو الحدود التونسية الليبية.
كانت المحطّة تعج بالمسافرين في حرّ شهر أكتوبر، قطعت تذكرتي نحو مدنين وركبت السيارة الموالية. نمت قليلا وراقبت الأرجاء كثيرا. كنت أجهل الجنوب الشرقي التونسيّ تماما – رغم أني أصيل مدينة توزر في الجنوب الغربي – وها قد أتتني الفرصة لكي أكتشفه. صحراء وقرى متفرقة ومدن كبيرة وسيارات تطوي الأرض طيّا وهي تغصّ بالمواد الغذائية و أكشاك عشوائية تعرض البنزين المهرّب.
وصلت إلى مدنين واستقلّيت سيارة أجرة أخرى إلى رأس الجدير وهي المعبر الحدوديّ الذي سأمر منه للدخول إلى الحدود الليبية.
في مساء ذلك اليوم وبعد استراحة صغير عند صديق دراسة قديم كان يعمل في الجمارك، حملت حقائبي وذهبت إلى وسط المدينة علّي أجد سيارة خاصّة توصلني إلى طرابلس مقابل أجر ما.
وجد صديقي مواطنا ليبيا يعرفه حق المعرفة فوافق على نقلي إلى مدينة سبراطة مقابل سبعين دينار ليبي ومن ثمّة واصلت في سيارة نقل جماعيّ إلى أن وصلت إلى طرابلس.
أمضيت الليلة في نزل متواضع. كانت ليلة غريبة وصعبة لا أريد الغوص في تفاصيلها. من الغد ذهبت إلى مقر الشركة وأقمت في غرفة أعدّت خصيصا لي ولمهندس من بنغازي في الطابق الأخير.
أمضيت أربع أشهر بين العمل والجامع القريب ومكتب البريد. كنت أحيانا أقتني ماكياطا أو ملفوفة شاورما لكسر روتين الحياة هناك.
أحيانا كنت أسير على الأقدام من شارع أبو هريدة للساحة الخضراء ميدان الشهداء حاليا لأكتشف المدينة. كنت أظل ساعات وأنا أتأمل الوجوه وقصر السّرايا والسيارات المارة حتى حلول اللّيل لأعود سيرا على الأقدام إلى غرفتي وكنت أحيانا أخرى أتجوّل في المدينة العتيقة وأمرّ على الأسواق لاقتناء بعض الملابس الرسمية التي أحتاجها في العمل.
هكذا مرّت أربع أشهر قبل الثورة. بدأت الثورة التونسية قبل شهرين في السابع عشر من ديسمبر وانتهت بهروب الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعوديّة يوم الرابع عشر من جانفي.
عشت أياما عصيبة في ذلك الوقت وكنت أتابع أحداث الثورة على فايسبوك متحمّسا أي حماس وكأني هناك مع المتظاهرين في الشوارع والميادين. كان قلبي معهم والأمل يحدوني إلى مستقبل أفضل.
في السابع عشر من فبراير بدأت الثورة الليبية في بنغازي وكانت الجزيرة تتكفل بنقل الفيديوهات التي تصوّر بالهواتف المحمولة وتتكفّل بتهويل ما يقع في الشرق في تجاهل تامّ لما يحدث في الغرب.
بقيت بمفردي في الشركة وفي البناية وكانت أصوات الرشاشات والقذائف والألعاب النارية ربّما تونس كلّ ليلة. كان رئيسي في العمل يزورني أحيانا لكي يزودني ببعض الأكل وكنت أمضي اليوم بين سكايب والسّرير فقد توقفت كل خدمات الأنترنيت الأخرى من بريد إلكتروني ومواقع الفايسبوك وتويتر وانقطعت شبكة الهاتف ولذلك كنت أطمئن أهلي عليّ عبر الأصدقاء في سكايب.
في يوم الثالث والعشرين من فبراير، سمعت أخبارا عن طائرة تونسية حطت بمطار طرابلس لتقل العالقين مجانا إلى تونس فأردت المغادرة. حضرت حقائبي وعودي ووضعتهم في الطابق الأرضي في الليل. سهرت بين التلفاز والهاتف والأنترنيت إلى أن غلبني النعاس.
في الصباح الموالي، نزلت لكي أتفقد حقائبي فوجدت الشركة قد تعرّضت للاقتحام من أشخاص مجهولين. حطّمت أجهزة الكاميرا وسرقت بعض التجهيزات وذهب معها عودي وملابس اقتنيتها لحفل زفاف شقيقتي.
كنت أنا موضع الاتهام وحققت معي الشرطة طويلا حتى أتى شقيق رئيس في العمل ووالده فسانداني وأعيد إلي جواز سفري المحجوز. قررت العودة مباشرة إلى تونس. لم أتمكن من ذلك بالطائرة فعدت إلى وسط المدينة.
وجدت مكانا في سيارة بين تونسيين ومواطن مغربي. أوصانا السائق بإتلاف شرائح الهاتف وبطاقات الذاكرة تجنبا للمتاعب التي يمكن أن تعترضنا عند التفتيش. استوقفتنا ثلاث مجموعات مسلّحة لم يكن يبدو عليها أنّها نظامية إلى أن وصلنا إلى النقطة الحدودية من الجانب الليبي.
لم ينجح عون الجمارك في الحصول على بعض المال مني فلم يكن لي ما يكفي من الأموال ولا الرغبة في ذلك. ختم جوازي بغضب وسرنا على الأقدام بين النقطتين الحدوديتين الليبية والتونسية.
مرٌت السّنين وعدت إلى ليبيا وأجواء الليبيين خلال عملي كمترجم فوري وقد قابلت الكثير من الليبيين والليبيات في المؤتمرات وورش العمل واللقاءات تحت إشراف منظمات أمميّة أو غير حكومية بالإشتراك مع هيئات وجمعيّات ومنظٌمات ليبية كانت تعمل على مواضيع شتّى بين العدالة الانتقالية وصياغة الدستور والمحافظة على الآثار والمصالحة الوطنية وصحافة الأزمات وقضايا اللاجئين ومراكز الإيواء وإصلاح المنظومة الصحية والحوار الوطني واللامركزية.
تعرّفت على ليبيا أكثر من خلال الأشقاء المشاركين وخاصّة منهم الشّباب الحالمين بغد أفضل الذين لا تهمهم الانقسامات بقدر ما يهمهم التخطيط للغد والعمل الجاد والبناء خارج الأجندات الخارجية والحسابات الضيقة الداخلية.
ومن المؤسف أن قوى التغيير الناعمة لا يعلو صوتها فوق خطاب الكراهية والانقسام بين الشرق والغرب وآلة الحرب التي تتغذى من الداخل والخارج على حساب الشعب البسيط الذي لا يرغب إلا في الاستقرار والتعايش السّلمي والعدل في توزيع ثروات بلاده ومكافحة الفساد المالي وكل ما من شأنه أن يقسّم بين مناطق التراب الليبي الواحد…
(سليمان زوڨاري) كاتب تونسي…
…..