قصة قصيرة :: عبد السلام سنان
تقف إيناس أمام مرآتها كعادتها، تحاكي ذاكرتها الموجوعة، تختلي بجسدها الرخامي الأملس الملهوب، تتحسسه بأطراف أناملها، تمعن النظر في تفاصيله وتضاريسه، يشوبها شيء من كدر وحزن، تنشد قصائد الرثاء على شتات أيامها ولياليها العجاف، تتأمل إقليدها الطويل، ونهداها البكران، وقد نمت عليهما حبتان من عنب نيئتان، زاويتا فمها الصغير تنفرجان عن إبتسامة إعجاب بهذا الجسد البلوري المصقول، تتصابى في إغواء ذاتها، تجلدها شهوتها، تشعل حريقا هائلا في حطامها، باتت تتقوض كبنيان خرافي قديم، وكدأبها تخرج صباح كل يوم مترجلة تسابق ظلّها، فقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، تسافر بين خيالها الواسع وأوجاعها الثقيلة، تسير على الأرصفة، تلوك الغربة والوجع ، تشعر بالإنسلاخ عمّا حولها من بشر، لم يعرها أحد إهتمامه، وبين ضياع أحلامها وأمنياتها، فهي بين مقصلة زوجها وسندان يأسها، غير أن هذا اليوم قد غابت عنه شمسه، بفعل غيوم تلبدت وتراكمت في سماء بلدتها، لا شيء سوى شتاء قارس ببرودته، ممتع بأمطاره، وقد يكون للزائر الأبيض مكان على أرصفة الشوارع ، فتهدي له الشمس خيوطها اللامعة تزيد من بريقه وبياضه الذي يشبه زهرة اللوز، بارحت الفتاة بيتها مرتدية معطفها الأنيق، تتجول عبر أزقة المدينة تنتقل تارة يميناً وتتجه يساراً تارة أخرى، فهي تسير بغير هدى، تحاكي بنظراتها ظلّها الممدود، لا تعرف لها عنوانا ولا إتجاها، تشعر بالملل المرتبك يدب في سائر جسدها، اعتمرت الحزن شاحبة، تخبىء وجهها الموشح بالحزن عن المارة، تعاقب ليل إثر نهار ومضى عام وراءه عام، لم تظفر إيناس بما كانت تتمنى، لقد عيل صبرها وأنقطع من زوجها رجاؤها، ونفذ صبرها، فاستيقنت بأنه لا سبيل للنجاة من زوجها إلا بالإنفصال عنه، لقد إستطار غضبها من زوجها وهاج هائجها، واصطلت بنار حياته معه، فصارت لا تطاق، فقد زهد فيها زوجها، وما عاد يفتنه حسنها ولا دلالها، ولم يستهوه جمالها، فهي لهذا مسلوبة الفؤاذ، مضرمة الأنفاس، تحاول أن تخفي أمرها فيفضحها دمعها، فهي لم تعد تملك أعنة قلبها، ولقيت من أمرها هذا نصبا، ولم تكن إيناس خليقة بهذه المحن ولا جديرة بهذا العذاب، وبذلك حملت لزوجها غلاً ثقيلاً، فنامت على الآلام وصحت على الأوجاع، ودمعها يجول على خديها كأنه اللؤلؤ، وكلّما خلت بنفسها واجتمعت مع قلبها، تحس الفتاة بأن عقد أحلامها قد تبعثر، فإذا جنّ عليها الليل أحست بإغفاءة خفيفة داعبت جفونها، تقول في نفسها ماعساني قد أذنبت حتى أصابني كل هذا العذاب، وصرت كما سنبلة مداسة، غير أنها تعودت أن تنفث همومها على أرصفة شوارع حيّها المتسعة، ولا تعود إلى بيتها إلا بعد أن تخور قواها، ويفعل بها التعب والإعياء فعلته، تعود إيناس إلى منزلها متجولة، ومتتبعة ببصرها كل الأشياء، دائرة من الضوء تشع على وجهها الهامد ، اللون اللامع في عينيها يكسر شعاع الضوء، ينفلت بين أهذابها الطويلة شعاعا رقيقا شفافا، لا شيء على الأرصفة سوى صوت الريح المتكسر على جذوع الأشجار المتصالبة، تتألم في هذا الإتساع وحيدة ، تسير وئيدة الخطى، ومساحة الوجع تتسع حتى تلف كامل جسدها الأبنوسي، تزرع قشعريرة بين شرايينها، تئن بأنفاس متقطعة، تعتصر بداخلها، تبكي ودمعها السجام يبلل وجهها الكامد، تحاول أن تلملم بقية جسدها المقطع الأوصال، إمتلأ قلبها حتى السنام بأسرار وأوجاع عظام، الشمس تتكىء على البنايات الشاهقة، وعلى رؤوس الأشجار الباسقة، استطال ظلّها الداكن على الرصيف الطويل، اندثرت كل الأشياء المنقوشة على الذاكرة، يخيل لها أن الهلاك ينصب لها شراكه في كل مكان، ويسرع لها الخطى من كل صوب وحذب، الهواء يطوح بجسمها في كل الإتجاهات، لا شيء سوى عواء الريح وصدى المركبات، وأصوات النسوة يتسرب من بين الشرفات، غير أن هذه المرة فقد حملت لها عودتها مالم تكن تحلم به، إستوقفتها الدهشة، غير مصدقة ما رأت، يا إلهي يا لا المفاجأة السارة، تسمرت في وجوم غير مصدقة عينيها، حينما رأت معلمتها فاطمة، بعد خمسة عشرة عاماً، وذلك عندما كانت تمر من أمام بيت المعلمة، إذ لمحت من خلال الشباك الحديدي لسور منزل عتيق، سيدة تجلس على كرسي متحرك وسط حديقة البيت تطالع كتاباً، تحت شجرة الياسمين الوارفة، والتي تبعث برائحة أزهارها إلى أنحاء الحي فيعبق بها المكان، وتنتصب إلى جانبها قطتها السوداء السمينة تمسح بذيلها على الكرسي الذي تجلس عليه المعلمة فاطمة، وقفت إيناس متسمرة غير مصدقة لما رأت، ورفعت يدها محيية معلمتها بإجلال وإكبار، بادرتها المعلمة بابتسامة ناعمة لم تستطع أن تخفي ما وراءها من أحزان وأومأت برأسها للفتاة قائلة: أدخلي تفضلي، حينها أسرعت إيناس بفتح الباب وهمّت بالدخول وهي تتساءل في نفسها ما بالها معلمتي؟ ما الخطب؟ وما الذي جعلها على هذه الهيئة والحالة المأساوية؟ والتي تستدعي الشفقة والعطف، علّقت عيناها لحظة على وجه معلمتها، وتجمّدت الكلمات في حلقها، وعاقها النشيج عن متابعة الكلام، فأمسكت لتمسح دموعها وتهدئ أعصابها بما تملك من رهافة بالغة في العواطف، ما أن قربت إيناس من معلمتها حتى جثت على ركبتيها وجلست بإزائها وقبلت يديها بحرارة وشوق كبيرين، فكان اللقاء أسطوريا، بما فاض فيه من مشاعر دافئة وحزينة، وهنا رفعت إيناس هدى بصرها إلى معلمتها، وقد شاع في وجهها بشر خفي، فكلتاهما تقاسيان هموماً، وتخفيان قصصاً محملة بفصول القهر والتعاسة والجراح، لا يتحمل أوزارها إلا من عظم صبره، ثم قالت إيناس وفي صوتها رنة السعادة، وفي قلبها رقة لم تعهدها من قبل: هل عرفتني أستاذتي؟ وهل تذكرتني؟ واستطردت تقول: أنا لم أرك منذ أعوام، كيف حالك أخبريني ما بك؟ وماذا أصابك شفاك الله؟ وطغى عليها شعور كادت أن تغيب في فيضه، لم تقدر المعلمة على حجب دموعها فصارت تسير على خديها، وقبل أن تجهش بالبكاء، قالت بصوت كأنه وسط بئر عميق: قد عرفتك أنت إيناس كيف لي أن أنساك أيتها التلميذة النجيبة الخلوقة، إنها أقدار الله يا أبنتي وليس للمرء من هروب من ذلك، توقفت المعلمة قليلاً عن الحديث، كأنما أعترضها خاطر مفاجئ فذهبت إلى أوج سرورها مزهوة فرحة وقالت: يا الله ما هذه المفاجأة السارة، أخبريني كيف حالك؟ وأين تعيشين؟ وهل تزوجت؟ ومن أتى بك إلى حيّنا؟ أفاضت إيناس: أنا أسكن خلف حيّكم وقد انتقلت إليه قبل شهر، تزوجت منذ ستة أعوام ولم أرزق بالطفل، وأعمل في شركة للاتصالات الدولية بعد أن تخرجت من الجامعة وتخصصت في تقنية المعلومات، وأما عن زوجي فهو رجل عبوس متأفف يكبرني بعشرين سنة، ولم أدق طعم السعادة والهناء مذ تزوجته، فما عاد الأمل يبتسم لي، ولم يتفتح زهر الرجاء في وجهي، فقد بنى اليأس على روض شبابي سوراً حصيناً،وقلاعا مثينة، ونظراً لعلاقته الوطيدة بوالدي رحمه الله، فقد نزلت عند رغبته الملحة بالزواج منه، وأنا الأن بصدد رفع دعوى قضائية لطلب الطلاق منه، لكي ألتفت إلى نفسي واعيد ترتيب أوراقي من جديد، سألت إيناس معلمتها: أخبريني من يقوم على رعايتك ومن يؤنس وحشتك؟ حينها تدخلت المعلمة مجيبة: أنا قد اوغلت في العقد السادس من عمري ولحقت بي النائبات ومهمات الأمور وعظيماتها، إنني أتقاضي مرتبي التقاعدي أصرفه على متطلباتي وشؤوني الصحية، وأحياناً تحضر عاملة الخدمة المنزلية لكي تساعدني نظير بعض المال، قاطعت إيناس معلمتها بقولها: لا تدعيها تحضر مرة ثانية، فأنا سوف أقوم بما تقوم به تلك العاملة وأكثر، وأنا على استعداد تام لكي ألبي كل طلباتك، واحتياجاتك اليومية، وأرجوا ألا تحرميني من رد بعضا من جميلك سيدتي الفاضلة، فإنني لن أنسى ما قدمته لنا من فضائل تربوية وتعليمية، قالت المعلمة: لا يا إبنتي لقد تعودت على هذا الحال، ولست متعبة ولا مرهقة والحمد لله، أقوم بصلواتي على أكمل وجه، المهم أن تهتمي أنت بشؤونك وحياتك، أصرت إيناس على القيام بواجباتها الأخلاقية والإجتماعية تجاه معلمتها، التي باتت وحيدة بعد وفاة زوجها وفي صباح اليوم التالي حضرت الفتاة إلى بيت معلمتها وقامت بكل ما يلزم من ترتيبات وإعداد الطعام، وقامت على نظافتها وإعطائها الدواء.
شعرت إيناس بأن بيت معلمتها فاطمة هو الملاذ الآمن، الذي حظيت فيه بالراحة ووجدت في معلمتها الرفقة الأمنة، وكثيراً ما تجلسان معاً تحت شجرة الياسمين لتجاذب أطراف الحديث، واستذكار الماضي بأفراحه وأتراحه.
تحصلت إيناس على حكم قضائي يوجب طلاقها من زوجها، وتركت منزلها وآثرت البقاء مع معلمتها، لتبقى قريبة منها، ولتهتم بشؤنها على أكمل وجه، حيث ارتبطت إيناس بمعلمتها أيّما ارتباط، وأصبحت تدير شؤون البيت، وتقوم بالترويح عنها، وتخرجها في نزهات بحرية والأماكن التي تحبها.
لم تستجب إيناس لطلب يدها للزواج، بالرغم من صغر سنها، فهي في بداية العقد الثالث من العمر، بيد أنها حينما تحدق في مرآة غرفتها الكئيبة لا ترى نفسها كذلك، فهي دائماً تتحسس تجاعيد بدأت تظهر عليها وتنذر بزيارة الشيخوخة المبكرة، إلا أنها شعرت بالسعادة الغامرة في خدمة معلمتها، وعاشت بين أركان البيت تسع سنوات، لم تمل من إسداء الخدمة وتقديم الرعاية لها، وذات صباح سمعت صوتاً يصدر عن معلمتها، وحينما أسرعت لمعرفة ذلك وجدتها تسجد في صلاتها، وهي تنازع الموت، وحينما أمسكت بها محاولة رفعها لفظت أنفاسها الأخيرة، بعد أن رددت الشهادتين، وطلبت قبلها السماح من إيناس، وفي ذات الوقت انهمرت الفتاة بالبكاء وحزنت حزنا شديدا، أقامت إيناس مراسم عزاء يليق بمعلمتها، وبعد أيام حضر محامي المعلمة فاطمة إلى البيت، ومعه إخطار يفيد تنازل المعلمة فاطمة عن البيت لإيناس رداً للجميل وعرفاناً لما قدمته من تضحية غالية، جلست الفتاة تحت شجرة الياسمين، كما كانت تفعل معلمتها، وأنبرت تكتب مذكراتها اليومية وحياتها مع معلمتها فاطمة خلال تسع سنوات، عكفت خلالها على أن تكون لمعلمتها الإبنة والأخت، رسمت خلال تلك السنوات الابتسامة الصادقة على وجه معلمتها، ولم تبخل يوماً أو تقصر في رعايتها وإضفاء أجواء المرح والسرور على نفس معلمتها فاطمة، فكانت عطر الضمير الذي أنتشت به إيناس برغم كومة الأحزان، وحزمة الأسى التي تعيشها، وذكرت في تلك المذكرات التي أسمتها نزيف الياسمين أن التضحية نابعة من إيمانها بأن من علمني حرفاً صرت له عبداً.