بقلم :: سالم ابوخزام
حينما ذهبنا إلى أوباري علٌقت راية بيضاء على هوائي السيارة ، فبدأت الناس تلوح بأيديها الممدودة للسلام ، فالجميع كره الحرب ونبذها حين ذاق ويلاتها ، فقد دفع سكان أوباري أثمانا باهظة من عشية اندلاع القتال وصولا لتلك اللحظة . السيارة تشق طريقها وتلك الراية البيضاء الصغيرة تعلن بدء تاريخ جديد لمدينة منكوبة أعياها الصراع وأزمتها الموت ! ذات مرة استقليت سيارة ” لانسر” حمراء بلون دم الغزال يقودها “تباوي” حدثني أنني ضيفه وتوجه بي لألقي أول نظرة على أوباري استجابة لطلبي ، فهي مدينة في غياهب الصحراء وقد خيّم عليها الحزن والألم ؛ فلا شيء يتحرك فيها سوانا ، فتدرك أنها مدينة للأشباح تئنّ من هول ما لحق بها من دمار وقتل على الهوية ثلاث طلقاتٍ تعبر من فوق رأسي المجنون ، إلا أن رفيقي يطمئن وجودي بأنها طلقات ” مشفرة ” تفيد أننا في مأمن وأن الطريق سالكة ، ولم يتبقٌ إلا أمتار قليلة لتنتهي رحلتي مع رفيقي الزنجي حالك السواد من التبو ، لتبدأ مرحلة جديدة من رحلتي مع رفيق آخر انسجاما مع قانون الحرب !! رفيقي ” التّباوي ” يودعني بقهقهة عالية أماطَ لثامه وتركني على أن ألتقيه لاحقا ! ..تركتُه وترجٌلت خطوات قليلة لأركب سيارة أخرى شهباء يقودها “طارقي ” فقد أصبحت في مناطقهم وفقا للتقسيم الحربي والأمني للمدينة المغتصبة . ..الرجل حلو المعشر يصافحني ويمازحني ويلبي رغبتي في الذهاب لأعالي تيندي لأول مرة . ..تيندي هو أعلى جبل في أوباري وعلى حوافها النهائية شاهدا عليها حيث تزهق أنفاسها الأخيرة !! تصعد سيارتنا ” الكروزر ” فإذا بي فوق تيندي لأطلٌ من أعالي الجبل الذي يدكٌ المدينة في أية لحظة يتقرر فيها استئناف البارود. وجدت ملثمين دمرتهم الطبيعة بردا قاسيا أو شمسا حارقة ، على مدار العام يمتشقون السلاح ويمارسون حياتهم داخل الخنادق صحبة المدافع والرشاشات . اطٌلعت على المدينة بمناظير دقيقة قادرة على رصد دبيب النملة ؛ فرأيت انهيار التاريخ بقذائف نالت من ركن ” الفورتي ” أو قلعة أوباري الحصينة إن شئت. ..بمعنى تدمير الحضارة والتاريخ دون ذنب اقترفه ذاك المبنى البُـنّي الشاهق والشاهد على أزمنة ضاربة في أعماق التاريخ . مؤلمٌ و قاسٍ أن ترى بلادك ومدنها تدمر وأنت لا تملك إلا التفكير في “حيل ” معقدة كالأحاجي لإنقاذ الحياة بها !! ..فوق هضبة تيندي رأيت كل آلة الحرب وتعاسة الإنسان ولم يدرْ في ذهني وخلدي إلا شيئٌ واحد فقط ، هل سأتمكن من رفع راية السلام البيضاء فوق تيندي وليبيا كلها حينئذ !؟ ..نعم تحقق الحلم والأمل بعد ألف حيلة وحوار امتدّ إلى نحو زهاء العام !! ..ارتفعت راية السلام الناجح فوق جبل تيندي لتبعث خطابا بكل معاني الأمل ومعاني النور في قلوب الأشقاء المتحاربين ليتحقق العيش المشترك بطعم نصر صنعه الجميع . إن عمارات حيّ النمار التي انطلق من أسطحها القنص والموت قد رفرفت فوقها رايات السلام وفتحت أبوابها ونوافذها لتبعث الحياة من جديد . نظرتي : إن الإرادة المشتركة لوقود الصراع وأطرافه قد ترفعت عن خداع السياسة للحفاظ على الحياة والتراب الطاهر من أجل أن يحيا فوقه الجميع ، خطاب جسّده فكر المحايدين لتلتئم كل الجراحات وينتصر الوطن . إن هزيمة اللعبة الدولية القذرة التي جسدها برلمان بائس ووفاق أعرج ، مكنّت أوباري لوحدها من تضميد جراحها المثخنة لتنعم بالسلام الناجح وجني ثماره حياة أعادت الروح للأرض والسماء ، لتنفتح أبواب الدكاكين والمدارس وحتى المقاهي وكل الردهات ليلاً نهارا . إن شُـبّان أوباري الذين مارسوا القنص من بساتين وأشجار ودروب ” تلاقين ” ومن فوق عمارات حي النمار ، هم أنفسهم من تحوّل إلى ميادين الكرة عشقا للسلام. ..كانت رائعة تلك الراية البيضاء الضخمة التي رفرفت فوق أعالي جبل تيندي لتحاكي رحلات الطيران تحت سفوح ذات الجبل بمطار أوباري ، حيث بات الطيران أمرا معتادا إذ تهبط طياراته في أمن وسلام . رائعة تلك الراية الخفاقة التي انحنى الجميع أمامها وتحت ظلالها لتختفي كل رايات التشظي والانقسام ، لينتصر الخير في إرادة الإنسان ، الإنسان الذي هزم الشيطان ودكّ معاقله ، حينما استمع الجميع إلى صوت العقل والحكمة للعودة إلى جادّة الحق والصواب لبناء مدن الوطن كلها وإسعاد الإنسان . لنجعل معًا أجنحة السلام تمتد مجددا من أوباري الأمل والحياة إلى درّة المدائن سبها ، لنوقد كلنا جميعا ومعا أضواء الوئام الوطني ونقوض معا مواكب الجنائز والموت نحو جبانات الفناء ، ولنبث بإرادتنا الجماعية حكاية جديدة تستحقها سبها الحبيبة ، حين نجعل شبابنا وأبناءنا. يعيشون من أجلها ، ونرمم معا جنباتها وتاريخها وحضارتها ، فنحن جميعا الأجدر بها لإعلاء قلاعها وأسوارها في وحدة جديدة وتاريخ حافل تحفظه ذاكرتنا معا جيلا بعد جيل ..هأنذا أخاطبكم حبّا وسلاما وأدرك أنكم فهمتم وكفى !! أ.سالم أبوخزام ؛؛