هند الزيادي
أمسك بيده آخر رسالة وقلّبها ليرى العنوان مكتوبا بخطّ رقيق مرتعش متردّد. مطّ شفتيه وزفر بأسى.
لا بريد اليوم ل5″نهج عنّابة”.لم يعد له بريد منذ انتقلت تلك العائلة إلى حيث لا يدري.عشر سنوات مرّت ومع ذلك لم ينس المنزل ولا نسي ساكناته، ولا توقّف عن المرور أمامه.
أمام ذلك المنزل فقط يشعر بأهمّية دوره وبجدّيته في خدمة الناس.كلّ الباقين يتسلّمون منه بريدهم في صمت أو لامبالاة وأحيانا كثيرة دون تلك ال “شكرّا”المهذّبة الباردة.غير أنّ الأمر يتغيّر كليّا عندما يصل إلى “5 نهج عنّابة”.فمجرّد أن يجلي حلقه ثم يصيح من أسفل الدرج بصوت يجعله جهوريا ليصل إلى ساكنات البيت هناك في الأعلى:
!يا رحيّم
يصل إلى مسامعه صوت ركض وخطوات تتسابق وضحكات جذلى تتصاعد تدريجيا.وإن هي برهة حتى تطلّ عليه من أعلى الدّرج ثلاثة رؤوس لثلاث صبايا في مقتبل العمر ذوات عيون مبتسمة .وتطلب منه إحداهنّ أن يحدّد المعنيّ بالرّسالة من آل رحيّم.فيبتسم ويعلن الإسم : “وداد”.
تتوقّف ضحكات الفتاتين وينظران إليه نظرة خيبة أمل وعتاب، بينما تنزل وداد ضاحكة مسرعة لتتسلّم منه رسالتها التي تبدأ بفضّها قبل أن تصل إلى الأعلى .وتستعرضها بتفاخر أمام نظرأختيها.
لم يكن ذلك المنزل يستقبل إلّا رسائل للبنات إذ نادرا ماكان يوصل رسالة لوالدهنّ.ولا يعرف عنهنّ
غير أسمائهن واسم الأب.أولئك الفتيات كنّ يعطين معنى لوظيفته وكلّ وجوده بحماسهنّ وصخبهن ولهفتهنّ على الرسائل التي يحضرها.
يبدو العالم عاديّا ولا شيء يكدّر صفوه.لا أحد يعبأ بأنّ هذه هي آخر مهمة بريد أتسلّمها.
المركز الصغير في الحيّ يستعدّ لإغلاق أبوابه والإدارة المركزية أعلمته بالخيار بين أن يأخذ مبلغا ماليا ويحال على التّقاعد أو يعيّن في مركز بعيد آخر في مكتب الإستقبال.ما عادت هناك رسائل ورقية مكتوبة.الكلّ هاجر إلى الأنترنيت.
“عندما أنظر إلى هاتفي المحمول وأعاين حجمه أشعر بالدهشة من قدرته على بعثرة أوراق حياتي بخبث وصمت.صار الجميع يرغب بالتراسل السريع فربحوا الوقت وخسروا بعضهم.وخسرت عملي”
في دوامة اللامبالاة الجماعية بما يحصل معه شعر أنّ الوقفة طالت وهو يمسك بآخر رسالة يؤجّل تسليمها كأنّه يصارع لتأجيل حكم بالإعدام على متهم ينتظرون ظهور براءته في آخر لحظة.
“يتوقف الزمن في لحظات معينة نخال معها أنّ ثقبا كبيرا يبتلعنا ويرمي بنا إلى العدم. وهذه كانت واحدة من تلك اللحظات.حاولت أثناءها أن أبحث في ثنايا ذاكرتي أو زوايا شخصيتي عن معنى وعبرة ما لما يحدث لي فلم أجد.حاولت أن أُفكّر بعمل بديل فلم يسعفني ذهني.تسليم البريد كان كلّ ما أجيد فعله. وكان عملي هو الشّرشف الجميل الذي يغطّي ثقوبا كثيرة فاغرة مفترسة في جدران حياتي.”
مهنة ساعي البريد كانت شيئا يستيقظ من أجله بهمّة ونشاط من يعتقد بشدّة أن دورة الحياة ستتعطل على سطح الكرة الأرضية إذا لم ينجح في ايصال أخبار الناس لبعضهم البعض، ولم يقل لهذه أنّ ذاك يحبّها ولم يقل لتلك أنّ وحيدها عائد من المهجر هذا الصيف.
لم يكن الأمر يحتاج أكثر من جولة واحدة ببريده على دراجته النارية لينسج من العلاقات ما قد تعجزعنه مفوضية كاملة للأمم المتحدة.
برسالة واحدة كان يمكنه أن يسعد إنسانا قُدّت حياته من انتظار.
عمله مهمّ دون ريب.والدرّاجة النارية والجراب الجلدي الذي يعلّقه بمقودها أساسيان لراحة الناس وسعادتهم.مشهد صبايا آل رحيّم وهن ينتظرن نداءه الجهوري أسفل الدّرج و يتسابقن بلهفة لتسلّم بريدهن منه يقول له ذلك.
مازالت آخر رسالة في يده وما يزال يرفض تسليمها لصاحبها.
! “غريب أمر نهج عنّابة.كأنه فرغ فجأة من سكّانه.ولكن، مع ذلك، يجب أن أسلّم هذه الرسالة
مرّ من أمام “5نهج عنّابة” واستغرب الصمت والدّرج المظلم الوحيد كأرجوحة غادرتها ضحكة طفل.
كان يرى المنزل فارغا منذ هاجرت تلك العائلة إلى حيث لا يدري.عشر سنوات مرّت على اختفاء الضحكات الجذلى والوجوه السمراء المشرقة ذات النظرات البرّاقة التي كانت كافية لتنير كامل حياته من تلك اللحظة إلى لحظة تسليم الرسالة المقبلة في “5نهج عنابة”
مازالت آخر رسالة في يده وما يزال يرفض تسليمها لصاحبها.
نظر بصمت ثقيل إلى الدرج الطويل الصّاعد إلى الشقة رقم “5نهج عنابة”.توقّفت عيناه وسلّط نظراته المركّزة على تفاصيل الدّرج يريد أن يختزنها في ذاكرته.حفظ لون الحائط وعدد الثّلمات الموجودة في بلاط تلك الدروج، ثمّ نظر إلى يده:
مازالت آخر رسالة في يده وما يزال يرفض تسليمها لصاحبها.
في نفس الوقت، أعلى ذلك الدّرج في الشّقة رقم”5نهج عنّابة” كانت وداد تجلس فوق فراشها وباب غرفتها موصد.تمسك بهاتفها وتتجوّل على صفحات فيسبوك.يستوقفها فجأة خبر.تضع عليه أيقونة الوجه الباكي.تبحث عن إسم أختها ألفة في قائمة أصدقائها على ماسنجر. تطلبها بعد أن استثقلت التنقّل إلى غرفتها ونقل الخبر إليها وجها لوجه.
في غرفة أُلفة يرنّ هاتفها الملقى بجانبها وهي مستغرقة في متابعة مسلسلها المفضّل.المتصلة أختها وداد من الغرفة المجاورة.كبست أيقونة الإجابة الخضراءواستقبلت صوت أختها الرّتيب القائل:
_ تذكرين عمّ الهادي ساعي بريدنا الذي اختفى منذ عشر سنوات؟
نعم. مابه؟
_ صادفني الآن خبر قديم عنه في فيسبوك على صفحة “سوسة أيام زمان” يقول إنّ الشرطة وجدت دليلا رجّح نهائيا فرضية انتحاره بعد تسريحه من عمله.وجدوا بقايا رفاته في بئر مهجورة وراء دار الحسّاني في المدينة العتيقة.دلّت عليه حقيبته الجلدية.