هكذا سألني سيف الإسلام.. وأجاب القدر بعد عام

هكذا سألني سيف الإسلام.. وأجاب القدر بعد عام

محمد بعيو

في لقائي الأول والأخير والوحيد معه يوم الخميس 29 يوليو 2010، حدثني (سيف الإسلام معمر القذافي) عن رغبته الصادقة في تصحيح التاريخ الليبي، وإعادة الاعتبار إلى حقبة الحكم الملكي، التي بدأت على يد الملك (محمد إدريس السنوسي) رحمه الله، بإعلانه الاستقلال، وتأسيس الدولة الليبية الأولى يوم 24 ديسمبر 1951، وانتهت على يده أو بمساهمة غير مقصودةٍ منه، في فاتح سبتمبر 1969، بعد أن غادر في أغسطس عازماً أن لا يعود ملكاً لبلاد لم يعد يستطيع أن يحكمها، لأنه لم يعد يفهمها هو الشيخ الذي شارف على الثمانين، وهي البلاد الفتية التي ثلاثة أرباع مواطنيها تحت سن الثلاثين، وتصادف أن أعمار من حكموها بعده من خلال مجلس قيادة الثورة لم تبلغ الثلاثين.الشاب الذي كان يومذاك في عامه السابع والثلاثين، سألني وهو ينظر إلى البحر من حيث نجلس وحيدين على شرفة فندق ريكسوس بمدينة بودروم التركية، في الشاطيء الجنوبي لتركيا على البحر الأبيض المتوسط:- هل يُعقل أن يتم إلغاء حقبة كاملة من تاريخ لــيـبـيــا، ونقول إنها بدأت مع بداية ثورة سبتمبر، أليس هذا تشويهاً للتاريخ وانتقاصاً من قيمة الليبيين ونضالهم؟ كان السؤال الإستفهامي الاستنكاري الموجه إلى نظام أبيه من خلالي أنا الذي ليست له أية مشاركة ولا مسؤولية في إنكار التاريخ وتشويهه، وإلغاء حقبة مهمة جداً منه، مفاجئاً لي ليس في جوهره بل في مصدره، فلماذا لا يوجه السؤال إلى أبيه القائد صاحب القرار (رحمه الله)، ولعله كان يبحث عن ما يعزز وجهة نظره ويؤيد موقفه.أجبته إنني مع ما يقوله وأتفق معه من حيث المنطق والمبدأ، وأنا سبق وشاركت في سجال مع بعض الأصدقاء الثوريين حول مسألة الاعتراف الواجب بالحقبة الملكية، التي هي حقبة مولد وبناء دولة الاستقلال، ونالني من اعتراضاتهم ومزايداتهم ما نالني دون أن أتخلى عن رأيي وموقفي.ارتاح لردي ورأيي الموافق لرأيه فاستطردتُ مواصلاً حديثي، منتقلاً به من النظري إلى العملي قائلاً له:- إنك لا تستطيع أن تعلن هذا وتمارسه عبر الإعلام أو الخطاب السياسي والشعبوي المباشر، فقد تكفلت أربعون عاماً من إنكار الحقبة الملكية وتجهيلها وتشويهها، عبر الإعلام والتعليم والخطابات والبيانات، بطمسها وإلغائها من أذهان الأجيال التي ولدت تباعاً مع وبعد الفاتح 69، وعمر أكبرهم اليوم تجاوز الأربعين، وأعدادهم ملايين، لكن العمل التدريجي لاستعادة الوعي الجمعي بالتاريخ الحقيقي للدولة الليبية الحديثة، يجب أن يبدأ من التعليم، عبر تعديل وتصحيح المناهج التعليمية في مراحلها المتوالية، وإدخال مراحل التاريخ الليبي بتجرد وموضوعية، دون مبالغة في التكريم ولا في التجريم، وهذا سيؤتي أُكله وتبدأ نتائجه في الظهور بعد عشر سنين، شرط أن يتم الثبات عليه، وينجو من الانتكاس والتراجع تحت ضربات المزايدين وصراخ الانتهازيين.انتهى ذلك اللقاء الذي دام أكثر من ساعتين، والذي بدأت به علاقة وثيقة مع الشاب الواعد بالغد، الموعود بالمستقبل، قبل أن يصبح الغد وبالاً، والمستقبل خيالاً، لكن من قال إن حركة التاريخ تخضع لإرادة الواقع، ومن قال إن قانون التغيير مجرد عود كبريت يتم استخدامه لمرة واحدة، وهو القانون الثابت الوحيد الذي لا يتغير، ولا يخضع لإرادة أحد سوى قدرة الخالق، وجريان المقادير.اليوم بل منذ عشر سنوات يرتكب ورثة فبراير المزعومون عن غباء مختلط بالجهالة والغرور نفس الخطأ، بإلغاء أربعين عاماً وعامين من تاريخ ليبيا الجمهورية الجماهيرية، قافزين عليها إلى ما قبلها انتقاماً من الأمس، وليس تكريما لأول أمس، الذين قرأوا مثلما قرأت واستوعبوا المفهوم الفلسفي العميق (مـكـر الـتـاريـخ)، الذي ابتدعه المفكر الألماني (فريدريك هيغل) قبل ثلاث قرون، لم يستغربوا أن يمكر التاريخ الليبي بمن ألغاه من حيث لم يتوقع بعد أربعة عقود، حين عاد علم الاستقلال (راية المملكة) ليرفرف من جديد، ونشيدها ليصدح مرة ثانية، في صورة من صور النكاية والعناد لا تفسير لها سوى أنها مكر التاريخ، فلا الشعب اختار علمه القديم والنشيد ليعودا من جديد، ولا التاريخ توقف عن مفاجآته الماكرة بحق الذين توهموا أنهم صادروه عندهم، وأوقفوه تحت أمرهم.وها هو وريث الأمس الشاب السجين، يصبح اليوم هاجسا لدى العجائز الواهمين العاجزين الخائفين على أنفسهم من الانتقام، بعد الذي جنوه على الوطن وأهله من خطايا وآثام وإجرام. ألم يرفعوا شعارات الديمقراطية والدولة المدنية، كذباً وزوراً، ليستخدموها متاريس للفساد، وحصوناً للاستعباد، هاهو التاريخ يمكر بهم، وها هم يتعرضون لامتحانه الحقيقي الذي حتماً سيرسبون فيه، فمستقبلهم الغابر وراءهم، وحسابهم الصعب أمامهم، حين يواجهون ثورة الصناديق، صناديق الإنتخابات، ليست صناديق الذخيرة التي قتلونا بها طيلة عشر سنين، ولا صناديق التوابيت التي حملنا فيهم الآلاف من شبابنا وأطفالنا إلى المقابر ضحايا معاركهم الفاجرة وأمانيهم الغابرة. موعدنا يا عبرحمان، ويا دعاة الطغيان، ويا ذئاب الإخوان قريب، بيننا وبينه ستة أشهر ويومين، يوم ترون شمس كوابيسكم تشرق من مغربها، ويرى المستضعفون شمس انتصارهم للوطن، وعودة الوطن إليهم، تُشرق من مشرقها، من حيث شاء الله الذي لا راد لمشيئته، ولا مرد لقضائه، ولا ناقض لوعده بالنصر للمظلومين ولو بعد حين.هذه المقالة ذكرى وموعظةً للعاقلين الكرام، لا للعالقين في شراك الأوهام، ولا للاعقين صحون الحرام.


شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :