كتب :: محمد الانصاري
من الطبيعي جدا أن يمارس أي طرفي النزاع العنف كوسيلة تعبير لمن افتقدوا السبل والأطر السليمة للتنافس نحو تحقيق المكتسبات والغايات بعد أي حالة تغيير تقع، ولكن من غير الطبيعي ، أن تشرع جهود الصلح بينهم لإيقاف الحروب دون أن يكون لها مشروع يستأصل جوهر الخلاف ، وقد تبدو الحلول التخذيرية للحالة مقبولة في حالة الإقدام على التالي منها وهو الاستئصال .وبالرغم من وجود فرص عديدة إلا أن تلك الجهود على مدى السنوات الماضية ظلت آنية وقتية ، ولم تستفد من تجاربها لتتراكم الجراح على بعضها بانتظار نعيق إحدى الغربان لتعود الحرب بأبشع مماكانت عليه ،فالأولى أبسط مقارنة بالثانية التي بنيت على تراكمات الأمس وهكذا ،فمحاولة ترميم المتهالك يديم المتهالك، ويعيق بناء الأفضل ، والإحساس بالضرر من الجميع دافع تغييري نادر قد لا يتكرر، نخدره بالحلول التلفيقية، كلما برزت مشكلة،ولعل أقرب مثال يعزز ذلك هو حرب يناير فلم يغلق ملف حربها-حتى كانت نتائج تلك الحرب عاملا أساسيا في تعبئة النزاع بين الأطراف المتقاتلة اللحظة ، وسببا رئيسيا في انهيار جغرافية المدينة، فقد رضت جهود المصالحة بحالة الانقسام وحالة التضاد مقابل وقف إطلاق النار لاستمرار الحياة ، ولكن الحياة لم تستمر بالمدينة كما كانت عليها منذ نفاذ اتفاقية 2014 ونفاذ الاتفاق ضمنياً يعاني حالة من الرضى لتوابعه ، التي حولت المدينة إلى حدود عسكرية وقواعد تمركزات تلاشت فيها كثير المؤسسات ، مشرعنةً لثنائية النزاع مرسخة لفكرة التقسيم في بالمدينة ،الكفيلة لكل طرف بتغذية مجموعته وتجييش البشر ، وعقد تحالفات جديدة استعداداً لساعة الالتحام من جديد والتي تنتظر برءا من الطرفين وهكذا.
ذلك يدفعنا فعلا إلى طرح تساؤل بديهي محرج ، هل فعلاً نحن نتتوق إلى السلام كما نبدي ؟ وهل هنالك مكونات سلام كما هنالك مكونات نزاع ؟ فبالرغم من حالة التيه التي يعيشها المواطن في مدينة “سبها” وما يبديه من بحثه عن السلام والمطالبة به في كل مناسبة ، إلا أن الكثير من المواقف ثبتت أن جلنا يريد السلام المنتصر تماماً لتصوراتنا ورغباتنا ، “ولا سلام ينتصر لفئة دون أخرى خاصة في النزاعات المحلية التي تموه فيها الأحقية ، وتختلط فيها المفاهيم ، وتنهار فيها جسور الثقة ” فقد تعلو مبادرات السلام وتتعدد وفجأة تنقلب مبادرات السلام نفسها ، إلى حرب مستعرة ضروس ، ليست المشكلة في الآخر كلياً ، إنما المشكلة في فكرة السلام الذي نريد ترسيخه، إنه السلام الذي يقصي وينكر أحقية الآخر ويتجاهل وجوده مطلقاً ،فهل حقاً نريد السلام كما نبدي؟ وهل يريد الخلاص فعلاً من يطبق نظرية (فخار يكسر بعضه )ويروج لها دون استثمارها للمصلحة الجامعة ، فليست كل الحروب والنزاعات نتائجها سلبية، ولكن تطبيق نظرية الحقد تلك، هي من تبيح للطرفين رسم الملامح الجديدة للمنطقة دون مراعاة للآخر ، فلابد للحروب من نتائج ، وشرعية “الدم” ونسبة القربان ، هي من تفرض شروطها على المصلحة العامة بعد نهاية كل حرب ، ولا غرابة في ذلك وفقا لتجارب الأمم السابقة، وليس من حق المتفرج الإملاء ،في ظل رغبة حتى “بداية المدينة”في الغياب عن المشهد، و الذين يمثلون عادة في المجتمعات السلطة المعنوية، واكتفائهم بحلم الخلاص من تلك الثنائية و انتصار رؤيتهم بالأمل دون العمل ،منتظرين معجزة القدر و الوصفة السحرية التي تحيي الدولة ،لتعيد فتح مسارات الحياة في المدينة وتبعث القانون من جديد لتشرع المحاكم أبوابها “هل من مظلوم لأخذ له حقه” تلك الصورة اليوتيوبية لا تتحقق دون تضحية ومواقف صريحة ومنصفة واضحة وجريئة” تحيي الجامع وتعي ما يحيط بها من متغيرات وتحولات محلية ووطنية وإقليمية وتعمل على التفاعل معها” بدلا من إحياء ماضي المدينة دون جعله مطية نحو الغد الأفضل أو تسليمها كغنيمة للقادم من الشمال (كـ محايد) . ليس كل ما يحدث هو ناتج عن فقدانهم بوصلة السلام ،إنما عدم الرغبة الحقيقية في السلام ، إلا الذي ينتصر لتصور الماضي وحليف الحاضر، فالماضي هو المسيطر على عقولنا بكل أشكاله ، ومشكلة فكرة الماضي دائماً في جمودهاو وأحاديتها، إذ تتضاءل فيها مساحة التقارب بينما نجد العكس في المفرقات فلابد من وجود ثائرين ضدها كما المدافعين عنها ، ليست المشكلة تماماً في استحضار فكرة الماضي إنما في كيفية جعلها تحل مشكلة الحاضر .فهل فعلا نريد السلام ؟ لايوجد سبب منطقي يفسر سكون مئات الآلاف من البشر، وهم في حالة من الضياع إلا وكان رهانهم على أحد اطراف النزاع بطرق مباشرة أو غير مباشرة،فليس من الطبيعي تماماً أن يعيش مواطن تمام المواطنة هذا الضنك وهو في حالة من التعايش معه إلا وكان جزءاً من معادلة النزاع ،تقل أو ترتفع نسبة مكانته فيه ممن هم يتطابرون على عتبات المصارف من أعيان الزوايا ومن تطاردهم عصابات السطو كل صباح وحتى الطفل الذي ترضعه أمه الحقد ،وترفقها بأبيات الثأر كل ضحى ،ومن يغلقون المتاجر قبيل الغروب ومن حاصرته مياه الصرف الصحي ومنعته من الخروج وإلخ .. فهل بعدا هذا كله نحن نرغب في السلام حقاً كما نبدي ونردد ؟ علينا أن نحيي رغبة السلم فينا أولا ،ومن ثم ننطلق، ولا عائق إجرائي حينها نحوه.