وإني سميتها غزة

وإني سميتها غزة

ختام زاوي

هذا الدم المتدفق من الصلب والترائب يلعب على شفير أطرافي المشتتة لعبة “حاكم جلاد” يدغدغ المسام بانفعال وكأنه يضرب  على حواسي ،يثيرها ..يهيجها وينبئني أن معجزة الله قد بانت وبأن ثورة الخيول والسيوف قد حانت وهي تشق سبيلها نحو آخر النفق وقد تقوض العالم القديم المرذول وقام عبد الله بتصويب رمح النصر نحو هالات الضلال والبوائق.

هبط القمر في غيابات السحر زائرا واشتعلت الصدور مهللة بقدوم الفجر والأصوات تتسارع كنبضات قلب خائف وهي تهتف “الله أكبر..الله أكبر”في لحظة الهية مستدامة  وقد روضني هذا الصوت الآدمي المزمجر فامتلأت نفسي قوة رغم التعب والنصب الذي لا يحتمله محتمل وجثوت أقترب منهم ببدن منهرس حتى أشاركهم هذا السر الكوني  المباغت..

وإذا ببعض السابلة مازالوا يترنمون بعبارات التهليل حتى أطاحت بي مسكة رهيبة وطرحتني على  الحجر كالسكير وانفردت بي هذه الناصية فأرغمتني على التخفي خيفة من الافتضاح ..

حجرشت الروح في صدري وأوشكت أن أموت في النزع  وقد كان الموت أروح لي مما أكابده من أسى وانقطع وصلي مع الخارج مغمومة  تحت أكوام من الرواسب المزينة بأشلاء حمراء قانية ويشتعل اللون الأحمر كاطلالة شمس الضحى ..أنقاض لا  تزاح  بالتهليل والرجاء الا اذا وقف الزمن واختفى الدمار من وحي الساعة ..

مدينة بأكملها تبكي معالمها المنبوشة..مقامات الأسياد قضت تحت الركام  وتحت وطأة القنابل وكل صخرة تناشد الصخرة التي تعلوها للنجاة من الفناء ..توابيت وتلال ترامت قبالي تشع بنور مكتوم من باطن جوانبها الملتهبة

أعمدة من الفوسفور تعود لتاريخ كنعان واليهود القدامى ..وقد تجلت وشوشة الأصنام في أذني فتوثبت لطرق باب الهوس ورأيت أنماطا غريبة من البشر  يشتد ضربهم على الجدران الحبيسة وهم يتأهبون للطلوع من الحفرة الغائرة وتكثر معهم النواقيس ويحتد الصراع بينهم وهم يتكلمون بلغة النواميس ..لغة الكتب المقدسة التي تروي صراع الأجيال..وقد اجتمع الملوك والرواعي والدواب والكهنة و حور العين والوحوش والرسل  والملائكة والشياطين  في رأسي..

صراع مليون مليون سنة يمر أمام  عيني المذهولة كشريط قصير من أول حجر وضع على هذه الأرض إلى آخر حجر سقط من هول الحروب .. استغشيت بثوبي كي لا أسمع ولا أرى وهاهو شعور الهارب يتملكني.. لكن توقي لنشوة الخلق الأولى وامتناني لهذا الكون البديع والرب العظيم الذي لم يترك سرا الا و حدثني عنه طوحني  في عالم بلا خرائط .

تضائلت رؤيتي للدماء والجثث المقصوفة ولا يزال النزاع قائما بيني وبين اليد التي تمسك معصمي ..تربطني ..تشدني أن أذهب ..ألف وأعود وكأن لي عندها جذر فإذا قاومتها غصت أكثر وإذا سكنت ابتلعتني أسرع فخاطبتها بغضب: لا تعبثي بحريتي !

ربما أدركت ما أعنيه ولكنها لم تعلق بكلمة واحدة .واشتدت القبضة ..إنني أغطس..أريد ان أتنفس ..أتنفس…

وفي غمرة الموت ولولت الولية بالزغاريد وناءت نساء الحي بحملهن لجهاز العروس من أثاث وحلي  في الصندوق الخشبي   “السمرافرنجي” وألسنتهن لا تتوقف على كلمات الترحيب والتهنئة والتبريك والشباب والشيوخ يرقصون على  “الدبكة “في ساحة واسعة تصحبها أغاني شعبية مع نقر للطبول وقد بسطت الأيادي لتحنئتي وتضميخي بالحنة وأنا في حالة من التوجس والنكران وكأنني خرجت من الدنيا إلى عالم مجهول..وإذا بيد أخرى تتقدم لتلبسني  زيا فلسطينيا مطرزا بعروق شجر الزيتون والورد وقد توارت المخاوف في صدري وأنا اسأل:

-من العروس؟

ضربت خدها حتى ثقبته وهي تغني:

“انت عروستنا ..يا ريتك مباركة علينا. .علينا..

وتبشرينا بالصبي يلعب حوالينا..حوالينا..

أعطونا عروستنا يا دار الأمير..نلبسها حرير

أعطونا عروستنا يا دار الأمير ..خلي الفرحة تزيد

وحلفت عروستنا لا تطلع على الفرس..الا بأحلى دبسة وحواليها حرس ..”

خامرني شعور أن قلبي ينبض في الواقع لا في الحلم ووجدت نفسي أحاول تذكر حياتي الماضية ..بيتنا وأمي  ،الرفاق والمدرسة والمعلم . .وحي الرمال و المسجد والشوارع المقتضبة بالعمار وساحة الجندي المجهول ..المستشفى والبحر وأنا ..

وإذا بالادراك يروح ويغدو بخطى قصيرة حتى انطلق عيار ناري واندفعت الأقدام مصحوبة بصياح وخرج أشباح الجنود من كل حدب ينسلون والقذائف تعلو و تغدو كل  المكان فلا يأتون على بيت إلا هدموه  ولا على بشر إلا قتلوه .

وترامت الأصوت في جميع الأنحاء:” الحقونا..الحقونا..البيوت تهدت فوق ريوسنا”

وماذا بقي ولم ينكسر ..فقد دمر موكب العروس ..واستشهد الحاضرون ومالي لا أراني بين الموتى ؟

تململت  يمينا ويسارا أبحث عن طيفي وإذا بي أحمل في يدي قلما وكتابا وباليد الأخرى سلاحا  واللثام المبرقع يغطي ملامحي وكأنني متمرسة قتال ولم أعد أعرف هل سأحارب العدو بالأدب أم بالحجر ؟

وصاح صوت أكثر ازعاجا:” سلم نفسك ..سلم نفسك ..أنت محاصر من جميع الجهات”

لكن في لحظة خوف من الأعماق ومن سلاحهم السفاح تناسيت الجهاد في سبيل الأرض وعانقت اليد التي مازلت تمسكني وتباهلت على المقاومة محتمية بثوبي الأبيض وكأني رضيت الشقاء والاستعباد

وإذا بطفل صغير ذو جناح ملائكي  يلطمني مرارا وتكرار و يقتلعني من غفوتي  ويطير بي ثم يرميني وسط زحمة الجنود وهو يقول : «قاتلي ..فداء الوطن ..إحمي عرض أرضك ..ياغزة »

فهممت كالوحش بجسدي ..جسدي الذي فيه القوة الأقوى ..فيه مدخر الحياة كلها من الطاقة ووثبت على السلاح بعزم وأطلقت الرصاصة الأولى ثم الثانية ..ثم الثالثة فأصبت السفاح والمتغطرس والمجرم والعاتي و الجار العربي المتطبع والأخ الخائن الرابض لي  وراء  حماته من المسلحين. سحقتهم جميعا وكنت أظن بصنعي هذا ستنتهي  المأساة وتنطفئ نار العشوم ولعل الصغار ينجون إلى مدى الدهر  وتعود الأعراس وتقام ولائم النصر بوعد الله وبفتح فلسطين  ويصبح لعلمي رونقا في القمم ..ومازلت أحلم ..

وبإذا بأصوات متمتمة  تخترق البرزخ وتهتف بإسمي« الشهيدة غزة أكتب .. توفيت يوم السابع من تشرين الأول  سنة الثالثة وعشرون والفين..هناك جثة أخرى مشوهة  معلقة بها.. لم نتعرف على الهوية بعد ..فك أيديهم  »

تلك أمي يا صاحب الصوت ..تريد أن تعيدني  إلى أرض  رحمها!

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :