- د :: نور الدين الورفلي
هناك شيئان يشغلان فكري، قراءتي لما أقرأ وقراءة الآخرين لما يقرؤون، ثم قراءتي لما أكتب أيضاً وقراءة الآخرين لي.حين أختار بعض النصوص دون غيرها، فهذا يعنيني وحدي، غير أنني لا أتجاهل قراءة الآخرين، المخيلة هي المسؤول الأول والأخير عن الذائقة (في الأدب أو في الفن، في <<علم فن الجراحة>> أو حتى في علم الكيمياء وخلط المحاليل، والأكثر إيغالاً في المسؤلية عن نتائج البحث، هي المخيلة التي يشتغل بها الفيزيائيون على سبيل المثال) الشعر أيها الأصدقاء، لا يخرج عن كل هذا، فهو من جهة، شاهد على الإبداع، ومن جهة أخرى على صنعته، ومن جهة ثالثة، هو أيقونة تاريخ بلا منازع.بعض الأصدقاء إعتقدَ أن ما أكتبه من نصوص لي، أو ما أختاره من نصوص الغير، لا يتعدى أن يكون نمط أيديولوجي، خصوصاً وأنني ميال لإستحضار التراث الشعبي من حين لآخر، ومكثر من الحديث حول بعض القصائد العربية، ومن ناحية أخرى أنشغل باللغة العربية وأدافع عنها بشكل عصبي، الواقع أنني هكذا فعلاً، لكنني لست مؤدلجاً، الدفاع عن التراث، دفاع عن الهوية عن الكينونة، قد يبتلع أحدنا شعراً جميلاً لهوميروس دون، حتى أن يترك الوقت الكافي لمضغه نظراً لحلاوته، وقد ينتابه الزهو ويستشعر اللذة الدماغية مع نيتشة أيضاً، غير أنه دائم الميل إلى ما يشعر أنه له، أو أن هذا الموروث شكل جزءً من أنماطه الأنثروبولوجية بوعي منه أو بدونه.من الصعب أن يحصي أحدنا الكم الموسيقي الذي أدخله على التوالي لجدار طبلة أذنيه من كل حدب وصوب، ومن مشارب شتى، لكنه دائماً يشعر أنه قليل، وكذلك لا يستطيع أن يحصي ما قرأه من تراجم وأدب وفنون شتى، الخ، لكنه أيضاً قليل، نبقى دائماً ناقصين بلا حدود، ولكن مسألة الإستمتاع بالأدب أو بالفن، أو بالعلم، هي مسائل متعلقة بنوع خاص جداً من البيداغوجيا الذوقية، ومستويات هذه البيداغوجيا، أو التربية، مرهونة بالخبرة الحسية التي لا تنتهي لأنها بلا قرار، لا نستطيع أن نقول فلان عنده خبرة حسية، لكننا نستطيع أن نقول أن فلان له امكانية خبرة، أودُربة حسية، أو نقل أن له ذوق عال أو منخفض، حسب تصادمه بما رأى أو سمع أو مارس بعد هذه الرؤية وهذا السمع.الأيديولوجيا لم تمت، لكنها تتذبذب بالذوق، وربما تتناقص عصبيتها بناءً على هذه الخبرة الذوقية، لكنها لا تندثر مع الزمن، بل تحل محلها مسائل أخرى، وهي التعاطي مع لسان الآخر، وتراثه، وثقافته، لتجتمع في أطر، ربما، نستطيع أن نقول عنها أنها عالمية، غير أنها ليست كذلك، لأن تشكل ذائقة الإنسان لا يلغيها، بل يجعل منها في كل مرة غطاءً لا مرئياً، ينسحب على شكلها، لكنه من الصعب أن يتمزق مهما كان شفافاً، سواءَ كان الكاتب يدري بما يتخلل كتابته منها، أو لا يدري، سواءً تماثلت هذه الأيديولوجيا أمامه بشكل مقصود، أو أنه كان قد أخفاها عن عمد أو بدون قصد. لكم محبتين.