“وطن التفاصيل” لنيفين الهوني

“وطن التفاصيل” لنيفين الهوني

الثريا رمضان

أم هي تفاصيل لوطن؟

“القبلة مفتتح الجسد”، في هذه الجملة تقول الشاعرة الليبية نيفين الهوني أنّها تختصر الطريق نحو العالم الذي تراه في قلب المرأة/جسدها، وهما طرفان متكاملان لا يستقيم أحدهما دون الآخر. فالقبلة بالنسبة إليها تمثّل العالم وسط تفاصيل دقيقة جدّا كتبتها الشاعرة في مجموعتها الشعرية “وطن التفاصيل” الصادرة حديثا عن دار السعيد للنشر والتوزيع بالقاهرة، مصر، 2021، والتي (القبلةَ أعني) تبرز أهمّ ركيزة لهذه المجموعة ابتداء من صورة الغلاف وحتى آخر حرف من حروف الومضات الاثنين والخمسين التي توزّعت على مدى 101 صفحة، في أربعة فصول عنونت بجمل نثرية منتقاة من قاموس الفصل نفسه، وجاء الكتاب في طبعة فاخرة قدّمت لها الأديبة المصرية شريفة السيّد، وخُتمت بصفحة فارغة تُركت للقارئ ليقيّم هذا العمل الإبداعي في حركة رمزية تؤكّد مدى اهتمام الشاعرة بنظرة القرّاء لحروفها.

عن فصول السنة الأربعة والقبلة التي تلاعبت بدرجة حرارتها الشاعرة حسب الفصل، عن شخصيّات مستدعاة من كتب التاريخ وألفاظ تخرج براعم من شجر أخضر يسقيه مطر الشتاء، عن الكنايات المزهرة في الومضات المكثّفة سنتحدّث خلال هذا المقال احتفاء بالإصدار الجديد للشاعرة نيفين الهوني.

نيفين الهوني

فصول العشق الأربعة:

أربعة فصول لحكاية واحدة تفتتحها الشاعرة بفصل الذبول (الخريف)، رغم أنّ الحكايات عادة ما تبدأ ربيعيّة وفي ذلك يقول محمود درويش (لا أريد من الحب غير البداية)، وإن كانت هذه الحكاية الإبداعيّة تلفحنا بحرارة الحب والأشواق منذ أوّل كلمة كتبت فيها إلّا أنّ الشاعرة آثرت البدايات المرهقة والحزينة في تجربة شعريّة متفرّدة قسّمتها على فصول السنة الأربعة كالتالي:

1* حلّ الخريف (سطوة التفاصيل).

2* جاء الشتاء (مواسم الغيث).

3* أزهر الربيع (غواية الزهر).

4* قيظ الصيف (حصاد السعير).

إنّها فصول لحكاية تبدأ بغربة تتّسع مع اتّساع فجوة الفراق أحيانا، والانتظار المتواصل أحيانا أخرى في فصل تذبل فيه أوراق الشجر وتكتئب سماؤه. خريف ملأته بمفردات رماديّة اللون مثل: اكتفاء كاذب، فراق، آهات الاحتياج، غريبا وحيدا، وجهي…مكفهرّا، الغربة بدأت تتّسع..

فالعالم الذي تختصره في قبلة يبدأ ذابلا جافّا حزينا، منتظرا لعلّ الشتاء يسقيه من الغيث النافع/القبلة (وهو ما سنتعرّض له في جزء موال من المقال) ليورق فيه الشعر أخضرا، لكنّه عالم مكثّف كتب بلغة متّزنة عرفت الشاعرة من خلالها كيف تختصر الفكرة، إذ تقول مثلا في وصف الاشتياق في الصفحة 45:

ولأنّك عطّرت ليالي السّهر

استنشقوا طيبك عليّ في الصباح

13 ومضة في كلّ فصل، ولكلّ فصل حكاياته المكتوبة حسب درجات حرارته التي تؤثّر على المزاج الشخصيّ للشاعرة، وبالتالي على الومضة الشعرية. ولكن قبل الغوص في تأثير الطقس على الومضات، فلنلق نظرة على العدد 13 الذي تقول الشاعرة أنه رقم حظها.

هنالك اعتقاد تاريخي قديم جدا بأنه رقم نحس، وذلك في عدد من الحضارات مثل السريان الذين يعتمدون على علم الأرقام ويستخدمون طاقتها، وبما أنّ يوم الأحد هو يوم للعبادة، وبما أن قوّته العددية هي 13، فبالتالي سيغضب الرب ممّن يعمل فيه وسيصاب بالشؤم والحزن. أمّا في روما القديمة فقد كانت الساحرات تجتمع بعدد 12 ساحرة والعدد 13 كان للشيطان وهكذا من الخرافات التي كانت ترى في هذا العدد شؤما.

وإذا كانت الشاعرة قد اختارت هذا الرقم واعتبرته رقم حظّها، فلأنّها اعتمدت حساب الأرقام في هذه المجموعة بشكل عقلاني، إذ أنّه وبحساب عدد أيام السنة الكبيسة، يمثّل الرقم 13 نتاج عمليات حسابية ابتداء من قسمة عدد أيام السنة الكبيسة 366 على عدد فصول الأربعة ليكون نتاجها 91.5، استخدمت الشاعرة منها الـ 91 وتركت الأنصاف لتكون من نصيب عناوين الفصول، وقسمت الـ 91 على عدد أيام الأسبوع أي 7 لتخرج بـ 13 التي تمثّل عدد الأسابيع/الومضات في الفصل الواحد. هذه العمليّات الحسابيّة العقلانيّة أنتجت مجموعة شعريّة لغتها عاطفيّة منسوجة بوجدان الشاعرة ومشاعرها المتمرّدة على السائد من خلال تمازج درجات حرارة الفصل بدرجات حرارة الكلمات، لتصل بنا إلى شكل من أشكال الكتابة الأدبية وهي الإيروتيكيّة ولكن بشكل غير مباشر، بل كانت كلّ ومضة تمثّل مشهدا طافقا بالمشاعر المشتعلة في صبغة رومانسيّة بحتة.

ورغم أنّ الفصول كانت واضحة المعالم في العام، إلّا أن الشاعرة تلاعبت بها حسب مزاج الفكرة، لتشاكس القارئ في خريف العمر مثلا فتكتب عن ربيع العمر وتتحدّث عن الخصوبة والبراعم والغيث وهي مفردات تخصّ فصل الشتاء، ولعلّ في ذلك بحثا عن الخصوبة وسط كآبة الخريف ويباسه، ومحاولة لتعديل المزاج المتعب داخل الومضة الخريفيّة، واستحضارا للأمل ما بين السطور المنهكة، فتقول الشاعرة مثلا في الصفحة 33:

كنتُ كلّما لاقيتُك

أطوفُ في عينيكَ ولا أبلغ أقصى الأماني

تعيدني النظرات الثملة شوقا

إلى ربيع العمر في وطن الخريف

فتورقُ براعمَ الوله المنتظر مجيئك

لأعيشه مرّتين

وربّما لمرّات أخَر

إنّ نيفين الهوني تخترع فصولا أخرى لا يعرفها أحد سواها ولن توجد إلّا في قاموسها الشعري، كأن “تورق البراعم” رغم أنّه الخريف، أو أن “يزور الأرض الظمئة ملاك بلون الخصوبة” في فصل لون الطبيعة فيه صفراء، أو أن “تزهر ياسمينة” في فصل الشتاء، إنّها إذا سطوة التفاصيل حتى بعد الخريف وفي الفصول المتبقّية من السنة، تفاصيل حكاية بين حرارة الحبّ ويباس البُعد، وخصوبة اللقاء وغيوم الأشواق. وهو أيضا وطن تتغيّر درجات حرارته حسب حضور الشخوص فيه وحسب تعاملهم مع اللحظة وليس حسب مناخ الفصل الحقيقي.

العالم ينحصر في قُبلة:

كتبت نيفين الهوني في الإهداء: “إلى رجل علّمني كيف أختصر العالم في قُبلة”، واختارت لغلاف الكتاب صورة امرأة تظهر بنصف وجهها تُقبّل خدّ رجل يميل برأسه قليلا عنها، يظهر في الصورة بوجهته الخلفيّة فكأنّما تعمّد إخفاء وجهه عن الأنظار. فالقبلة إذا وكما أسلفنا في مقدّمة المقال، وحسب ما جاء على لسان الشاعرة نفسها “مفتتح الجسد”، ولعلّها تقصد هنا مفتتح عالم مجهول تبحث عنه المرأة بعواطفها، والشاعرة تكتبه أمنية إذ تقول في الصفحة 94:

غاية الروح معك لقاء

ومنى النفس منك قبلة

ولا حدود لحلم المرتجف أمامك

لهفة!

العالم إذا في “وطن التفاصيل” ينحصر في قبلة، قد تجيء على غفلة من اللحظة غير مرحّب بها كثيرا او مسروقة كما في صورة الغلاف، أو تجيء كأمنية في زمن صارت العواطف فيه تعتبر ترفا أمام سطوة الجسد والتعامل معه كسلعة، وهنا بالذات تحيلنا الشاعرة على زمن كانت فيه الفتاة تخاف أن تحبل من لمسة، فما بالك بالقبلة، وكانت العلاقات العاطفية محاطة بهالة من الأمنيات والأحلام حول الوصول إلى جسد الآخر، الذي كان يعتبر محرّما حتى تحلّله الأعراف والنواميس من خلال توثيقه قانونيا بعلاقة رسميّة.

أو تجيء حلما حارقا، خاصّة مع قيظ الصيف لتكون مفتتح حصاد السعير بعد مواسم الجفاف والبرد، إذ تقول مثلا في فصل الخريف محدّثة عن القبلة في الصفحة 41:

سأحبو كلّ صبح

بين فنجان قهوتك وشفتيك

وأنقش الوقت بينهما

شهقات اشتياق

فالشاعرة هنا، وحسب ما اختارته من مراحل داخل مجموعتها الشعرية تؤجّج لهيب الاشتياق شيئا فشيئا مع ارتفاع درجات الحرارة/الشوق فقط لتصل للقبلة، رغم أنّها وكما سنرى لاحقا قدّمت نصوصا إيروتيكيّة بامتياز في إصدارها هذا. القبلة إذا، كغاية المنى، وكما تقول الشاعرة أيضا، لا تهدى إلا للشخص الذي يستحقها والذي نحبّه، القبلة للمعشوق فقط.

الكامن في سطور نيفين الهوني:

منذ العنوان “وطن التفاصيل” سنجد أنفسنا أمام شخصيّتين مختلفتين للكاتبة، فمن جهة نجد نيفين الصحافية باعتبار أنّ التفاصيل تهمّ الصحافي حيث ينبش فيها بحثا عن الحقيقة وعمّا تخفيه من غموض، ومن جهة أخرى نقف أمام شاعرة تبحث عن وطن، شاعرة متشتّتة المشاعر بين الأماكن مع تنقّلها الدائم بين ليبيا وتونس ومصر والجزائر وغيرها من الدول، وبين تنشئتها بين إيطاليا وليبيا، وترعرها في بيت جدّتها بعيدا عن أسرتها لفترة من الزمن، وإحساس جدّتها بالغربة لآخر لحظة من حياتها. كلّ هذه الظروف أصبغت على نصّ الهوني إحساسا بالتشظّي وعدم الامتلاء بالمكان الواحد يبرز من خلال بحثها عن الوطن داخل الحبّ أو في شخص الرجل، وليس في أرض معيّنة. إنّ حالة التشتّت الباطنيّة التي عاشتها الشاعرة جعلتها تكتب نصوصا تكتب الغربة كرهاب، إذ تقول في الصفحة 38:

في الصباحات الباردة

يستيقظ ظلّي غريبا وحيدا

ويُطلّ وجهي من المرآة

مُكفهرّا

يُخبرني أنّ الغربة

بدأت تتّسع

لتضمّ أطرافي أيضا

نيفين الهوني إذا، وكما كتبت فصولا أخرى للسنة، كتبت وطنا آخر مرتبط بالحبيب لا بالانتماء الجغرافي، فهو (وأعني هنا الوطن) موجود في عينيْ الحبيب وفي الخريف وفي براحات الذكرى وهو وطن من أحاسيس، فهو كما تقول الشاعرة، كلّ ما تقرّر أن تنتمي إليه ويكون لك وطنا.

إنّه، وكما اختصرته، وكما جاء في الصفحة 33:

حين مساء عابق بأنفاس الشوق

ومشبّعا بآهات الاحتياج

لوطن من أحاسيس

سأهدهدك هنا نبضة

حيث ستفترش كلّي

وأدثّرك ببعضي

وتغفو…

لعلّنا نستطيع القول عن هذه المجموعة الشعرية أنّها تبدأ بغربة لتنتهي بغربة أخرى، وبينهما لقاءات متناثرة تكتب من خلال مفردات مختارة بعناية، من قاموس الطبيعة، تتشابك فيها السنابل بالياسمين والصباحات الباردة بالهجير، ومن قاموس الأساطير والشخصيات التاريخية مثل نيرون وهارون الرشيد، ولعلّ في هذين الاسمين بالذات رمزية السلطة الذكورية التي ترفضها نيفين المرأة بشخصيّتها القويّة والتي تظهر في لهجتها الحازمة في بعض المقاطع، رغم شاعريّة لغتها النثريّة. جاء في الصفحة 43:

حين يراودك الحلم بأنّك هارون الرشيد

تذكّر

أنّ بعضهنّ لسن جواري

ورغم ما تحمله هذه الومضة من شدّة، إلا أن الشاعرة تنساب بلغة رقيقة وسلسة في ومضات أخرى، مصوّرة الأنثى في أقصى حالات ضعفها، فتقول في الصفحة 81:

دعني أقبّل يديك

عند الرّحيل

حيث تغافلك الأنامل

وتحصد ثمار العمر

زادا لأيوب

وتقول في الصفحة 53:

وتبقى يا ملاكي

في ليلة الميلاد الشتوية

قارورة الدفء

الذي أعطّر به جيد العمر

بأمنيات مترعة

بك

من جهة أخرى، تتوارى الشاعرة الرقيقة داخل صور إيروتيكيّة نابعة من وهج الشوق، إذ تقول في الصفحة 91:

ولأنّ الانتظار حارّ

لم أحتمل قيظ الدقائق.

وبعثتُ لك بعضا من هجير الوقت

المتأجج في الوتين

وتستخدم لتركيب هذه الصور ألفاظا مباشرة أحيانا مثل: ضاجع، نشوة، الوسائد، فراش، متوهّج، الاشتهاء، شهقات… إلخ، وأحيانا تكون الصورة غامضة توحي بالمشهد كقولها في الصفحة 52:

لأنّ الشتاء قارص هذا العام

امنحني دفئك

لتزهر بيننا ياسمينة

باذخة الأريج

وقولها في الصفحة 59:

نحن أزرار اللحظة

أفلتت عقالها يد عابرة

في خلوة بريئة

إنّ الهوني تعيد صياغة الجسد بشكل شاعري مكثّف داخل الومضة الواحدة، حتّى أنّها في الكثير منها كانت تحرق القارئ بتفاصيل التفاصيل من خلال أقصر الجمل، كقولها مثلا في الصفحة 57:

ولأنّ التسلّل ملعبي

قرّرت

دسّ أصابعي هناك

هذه الجرأة التي اكتسبها نصّ نيفين الهوني تضفي تميّزا على مجموعتها الشعرية هذه وتثير فضول القارئ للغوص في كوامن هذه اللغة التي خُلقت داخل فصول مختلفة عن السائد لتبني ومضات متّصلة في الفكرة منفصلة في التوقيت، ومواسم حارقة بلظى اللغة الشبقيّة وانتشاء الصور الإيحائية وتفاصيل الشدّ والجذب مع كل مرحلة من مراحل الحكاية التي بنت عليها الشاعرة نيفين الهوني مجموعتها الشعرية. مجموعة شعرية هي الثالثة في رصيد الهوني الشعريّ، جاءت بعد غياب سبع سنوات عن النشر، لتلبسها حلّة سيّدة الفصول الأربعة كما سمّتها الأديبة شريفة السيّد.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :