” وطن التفاصيل ” نيفين الهوني : توسّع متمكّن واختراق بليغ لعالم قصيدة الومضة

” وطن التفاصيل ” نيفين الهوني : توسّع متمكّن واختراق بليغ لعالم قصيدة الومضة

  • محمد بن جماعة

مذاق الزّمن من مذاق الحبّ وفي تجلّياتهما يتأسّس “وطن التّفاصيل” للإعلامية والأديبة الليبية نفين الهوني.. وهو عنوان ديوانها الشعري الصادر عن دار السعيد للنشر والتوزيع.. الطبعة الأولى 2021 ..

أمّا عن الزّمن فقد اختارت الشّاعرة الفصول الأربعة كمسرح لأحداث الوجدان والحبّ.. فكانت لا تفلت عنها تفاصيل الزّمن المتقلّب والمتبدّل والمتحوّل.. في فتراته الطبيعيّة بين ليل ونهار متعاقبين بشروق وغروب وزوال ومساء.. وأوان الحصاد.. ففي تلك الأزمنة تتدفّق الكتابة وصورُها وألوانها.. ليكون الفصل الأول: حلّ الخريف (سطوة التفاصيل) حيث أكّدت الشاعرة تمهيدا له قائلة: ” في خريف العمر.. حولْتَني إلى سنبلة راقصة تتمايل نشوةً، بعدما عبثتْ بها أعاصير البوح شوقًا، وعصفت بها أعاصير الشّوق بوحًا” ص: 31 . فماذا عن هذا الزّمن وكيف كان العيش فيه؟.. ونحن نعلم حدوده المعلومة حيث نقيسه بوحدات الثانية والدقيقة والساعة.. حتى نصل إلى عدّ الأيّام والسنوات والقرون.. وكلّها بل وأغلبها مليئة بالانتظار والصّبر.. ليعلو جبل الزّمن شاهقا ومجمّعا لهذه الفترات الملهمة للشاعرة نيفين الهوني لنسج مجمل أحاسيسها المحتشدة بأمل لمجيء هذا الحبيب الذي تراكمت بغيابه سطوة التفاصيل.. حتّى كأنّ اللّحظات لا توشي إلاّ “بالاكتفاء الكاذب” والصّبر والوهن والفراق المرير والقبض على الهواء أو المسك بالماء ليكون ألم الوحدة وظلّها المقيت.. داخل هذا الزّمن المتجرّد والمتكرّر بأحداثه بين ماض وحاضر ومستقبل غير معروف النّهايات:

” كنت كلّما لاقيتك في عينيك ولا أبلغ أقصى الأماني

تعيدني النظرات الثملة شوقا

إلى ربيع العمر في وطن الخريف

فتورق براعم الوله المنتظر مجيئك

لأعيشه مرّتين

وربّما لمرّات أخر” وطن التفاصيل- ص: 33 .  وفي نفحة الأمل تتنزّل أسطر أخرى لتصوّر أعلى مراتب الإشباع الرّوحيّ والجسدي شرط اللّقاء..

” حين مساء عابق بأنفاس الشّوق

ومشبعًا بآهات الاحتياج

لوطن من أحاسيس

سأهدهدك هنا نبضة

حيث ستفترش كلّي

وأدثّرك ببعضي

وتغفو..” وطن التفاصيل- ص: 36 .

إنّ فصل الخريف الذي ظهر وبان أحالنا على موسم الحرث والزرع، فصل يتفتّح فيه رحم الأرض المخصب لتتولّد منه الحياة.. وزمان مليء بالحركة والتقلّبات والرياح والبرد.. فتتحدّى الشاعرة جميع أشكال الغياب بأفعال أمر صادر عن امرأة خبرت المعاني والكلمات وتمرّست جرس الحروف وما يخلّفه لدى المتلقّي:

” ضاجِعْ كلَّ حروف الأبجدية

واغتسلْ كلّ فجر

من نشوة نون النّسوة

فكلّ حرف هو أنا ” وطن التفاصيل – ص: 37. ورغم هذا الوعي باللّغة وأسرارها يتوالى تصوير الوحدة وظلّها لتبني وحدات معنوية تكتنز أنواعا من الآلام.. ومنها الرغبة والشّوق والحرمان والاشتهاء واستحضار روح الحبيب والحلم والصّبر.. فكانت القصائد الومضة أو القصيرة جدّا كوميض برق في سماء خريفيّة ملبّدة بسحاب الغياب ورياح الفقد.. هذه القصائد تنتصب كعلامات إثبات بالوجود وإشارات مرور للوصول لأيّ محطّة معلومة في هذا الطّريق الخريفيّ قد يصير فيها الحرمان مقدّسا ومحقّقا لذروة النّشوة في هذا الزّمن القاسي والمؤلم لتكون عنوان الاستحالة والمحال بين فراش “بلّله القمر” و “طِيبٍ عطّر ليالي السّهر”.. هذا الحبيب الذي يبرّر الفعل نحوه بجرأة متحفّزة لتقول الشّاعرة:

“سأحبو كلّ صبح

بين فنجان قهوتك وشفتيك

وأنقش الوقت بينهما

شهقات اشتياق” وطن التفاصيل- ص: 41.

ويحلّ الفصل الثاني بعنوان: “جاء الشتاء (مواسم الغيث) ليتصدّره تقديم فرعي فاتح حقيقة العيش في هذا الزمن.. مبرزا شكل البوح المصرّح به تصريحا يرتبط بالسّرد القصصي في حضرة الومضة الشعرية: ” في صقيع الليالي أكتبك شعرا وقصّة ورواية وإضمامة من بوح الحكايا” وطن التفاصيل- ص: 49. ليكون رمز الشتاء مسيطرا ببرودته القاسية تلك التي تتسلّل إلى الجسد والرّوح على حدّ سواء.. تلجأ عندها الشّاعرة إلى تشخيص برد الوحدة وطلب الدفء في صورة مزهرة ومعطّرة:

“لأنّ الشتاء قارص هذا العام

امنحني دفئك

لتزهر بيننا ياسمينة

باذخة الأريج” وطن التفاصيل- ص:52. لكن كما كلّ مرّة.. يتجدّد السّكون والصّمت في غياب الحبيب.. وتمرّ السّحب دون مطر.. ويتوفّر الشّوق والاشتهاء.. في إيقاع هادئ مرتبط بفترات التأمّل الدّاخلي.. والحاجة إلى القوّة والصّمود لمقاومة الصّقيع بدفء القلوب.. ولا وصال سوى الأحلام:

“تحت وسادة الأحلام

وجدوك تمشي فوق أهدابي” وطن التفاصيل- ص:60.

ويأتي فصل الربيع بطابعه المزهر وزينة الأرض الخلابة التي تلهم الشّعراء بانطلاقة جديدة ومتفائلة بالحبّ والجمال والاحتفال بالحياة.. تتفتّق فيها كلّ الأحاسيس وتلتهب فيها الأشواق.. وتأخذ فيها اللّغة منحى متحرّرا ومتجرّدا من أيّ عائق أو مانع.. لا يثنيها خوف أو تردّد على البوح:

“قال لي ذات حكاية:

لمَ لا تختصر اللقاء ارتشافة وقبلتين؟

لمَ لا نشرق عبر شرفات الوقت

وردا وبساتين؟

حين لقاء همست له الزهرة

بأسطورة العناق الليليّ ليصحوَ

فغفا..” وطن التفاصيل- ص: 70.

وقد يكون المقام في زمن الربيع- وهو ثالث الفصول لدى الشّاعرة نيفين الهوني – أفضل مساحة تتوفر فيها لحظات صادقة لا يكتم فيها الإنسان مشاعره العميقة تجاه من يحبّ ولا يقدر على إخفاء ما يعتريه من وجد وتعلّق كبيرين.. قد لا يتخلّى فيها العاشق عن رومنسية مداهمة وخطوات جريئة ومميزة نحو الحبيب:

” من نهد البوح المسائيّ

ينهل زهر الياسمين

من رحيق القصيدة

ويهدي الصّبحَ

أطفالا من أريج” وطن التفاصيل- ص:74.

ويختتم الديوان بفصل الصّيف – قيظ الصّيف ( حصاد السّعير ) وهو الزمن الذي يوفّر فرص اللقاء بين الناس وخاصة بين المتحابّين حيث الإشراق والبهجة واكتمال نضج الثمار.. في هذا الفصل نصل هنا إلى ذروة الوصف والتشابيه والانزياح والاستعارة قد لا تمحوها الذاكرة ولا تنساها العين ولا يغيب دفؤها.. نشوة بحرارة انتظار:

“ولأنّ الانتظار حارٌّ

لم أحتمل قيظ الدقائق

وبعثتُ لك بعضا من هجير الوقت

المتأجّج في الوتين” وطن التفاصيل- ص: 91.

ويبقى هذا الوضع الحالم مشتركا مع كل متلقّ كابد الشّوق للاتصال روحيّا وحسّيّا لتحقيق الاتحاد والقرب لا ينتهيان في استمرار دائم..

“آه من بوح

يحسّ ولا يقال

وآه من صبح

يأتيني بطيفك دون وصال” وطن التفاصيل- ص:99.

هذا هو الشّعر عند نيفين الهوني.. ينهل من تحوّلات الفصول في أوج تكوّنها وسيرورتها.. ويحيا في الزّمن المتدفّق برتابة الوعي به.. رغم ثقل الانتظار ونفاذ صبر الوله العاشق.. شعر يفرض سطوته اللغوية المكثّفة التي تراهن على مصطلح الصّورة المكتملة لنقل مشاهد لا تغادر الإنسان المتذوّق حقيقتها.. إنّها مساحة مسلّحة بأدواتها المقاومة لتحقيق الإضافة والتوسّع والاختراق لعالم قصيدة الومضة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :