يوم مات بوي للمرّة التانية

يوم مات بوي للمرّة التانية

  • سعاد سالم / soadsalem.aut@gmail.com

تَنّوَه 

مايشبه ترسب التجارب والمعرفة

الوطن العاطفي

يحب الناس في مناطق التنميط الشديد لكل الظواهر والمظاهر سياسية كانت أو اجتماعية وبلا أدنى شك الدينية، أن يرددوا الإجابات المحددة سلفا لكل الاسئلة، وأي كلمات مستخدمة مختلفة حتى لو كانت في لفظها وليس في معناها ،ستكون لهم مبعث استغراب، أو تجاهل غير مقصود ، وكأن الشخص في حالة عدم تركيز ، نقول مساء الخير يردوا وعليكم السلام، اتجي الجمعة عادي، مثلما تأتي باقي أيام الأسبوع ولكن السائد لفظا وفقط ،أن الجمعة مباركة، رغم أنها و حتى في دلالتها عند المسلمين، يوم مختار لأداء صلاة جماعية، ومناقشة أمور العامة، ويمكن رغم اتباع الجمعة بالمباركة يا أيتها السيدات ويا أيها السادة، أن تنشب معركة فسط الجامع بين التوجهات المذهبية مثلا،أو بين المأمومين لأنه واحد مالك مكان شخصين وهكذا،  أعني أن هذا اليوم الجمعة ،أقل سلاما بسبب التجمعات ليس فقط في الجامع ولكن في البيوت أيضا،أي يوم عطلة في الدول الحديثة، زي ليبيا،ويدل على أنه يوم التجمع والبحث والنقاش،باعتبار القوسطوات ، والمرح عند الأغلبية خفة عقل وشنّ هذا، وفي هكذا أجواء قد تكون المباركة أبعد مايكون وخصوصا اجتماعيا، لذا هذه دعوة لنكون أحرارا لا تقيدنا التعبيرات السطحية التي تأخذ أي مشروع بشري ، إلى بعد وهمي طوباي ليس له أساس في الواقع، مما يصعب معه تحلحيز حياتنا ، وربطها بواقع أن الانسان لن يكون يوما ملاكا، كما لن يكون شيطانا ، بل بشر ،يجرب ، ويفكر في الحلول لكل عقدة يضعها أي متزمت ،واقف في مكانه وبيوقفّنا معاه.

إذا لنتفق مبدئيا أن يوم الجمعة ، هو يوم عادي ، ادرسّوا فيه سياراتكم في نص الطريق لتلحقوا صلاة الجماعة، الدين الذي يؤجر من يميط الأذى عن الطريق ،فتقفلونه رياءا أو جهلا، وأنه يوم ممل عند أغلب النساء، وأنه يوم تعيس عند البعض ،كما كان عندي شخصيا في 2008، سيعتقد كثر إني مكبّرة الموضوع ! لا، وهى جازمة ، التنميط يبدأ من حيث لا أحد يهتم ولا يلاحظ، لأن التنميط يخدم هدف اكبير ،وهو بناء العادة، وتربية الببغاوات البشرية، وجيل الصمّ والحَفَظَة.

لنصعد دُرجة  الآن ،ونتحدث عن شيء من التنميط الخطير، إنه تنميط الوطن والوطنية، في بداية زمن الجماهيرية، وقبل أن يُطعن في عقيدته لتشيع هذه اللقّامة: الجيش حشيش وطيش، تظهر على التلفزيون الليبي ، اعلانات الالتحاق بالجيش الليبي، وعلى خلفية موسيقى عسكرية ،وصور الكراديس للشبان والشابات، يبدأ الصوت المجلل بالقول : إن الدفاع عن الوطن مسئولية كل مواطن ومواطنة، إلى آخر الديباجة ، الخالية من مسئولية الوطن الدفاع عن حرياتنا وكرامتنا، ولكن في ذاك الزمن البائس لمراهقات ومراهقين في عمري، كانت البلاد عبارة عن حكة مسكّرة علينا، ونرى العالم من خلال نشرات يقرأها مجندون من نوع آخر بالعبوس والتجهم والجدية، نرى الخيول تفرق المظاهرات ونرى البرلمانيين يتراشقون بالأحذية، وتقول النشرة على لسان المذيع أو المذيعة ،أن النساء في الغرب إما سلعا أو محقّرات يلدن في الشوارع، لكن لحظة، هذه الحكّة التي عشنا فيها ، كانت بها ثقوب صغيرة بفعل الصديد، إنها ثقوب غابت عن بال صاحب التاناكة الليبية العظمى، وهى الكتب ، وأشرطة الكاسيت، وسفر بعض أفراد العائلات الليبية الذي قيد سفرهم كموظفين قانون 15، وبداية صعود الدولار مقابل الدينار الليبي، وصعود هتافات زيد تحدى زيد ، اولئك الأفراد حملوا إلينا  بعضا من حياة أخرى لهؤلاء البشر خارج حكة الشعب الحر السعيد، فمن هناك تتسرب الموسيقى والأفلام ولجيل الحصار عادوا بحارة تفاح وانزاص والشوكلاطة،

مع هذا ظل الناس في ليبيا، يرددون وعلى الدوام : يقول الطير وكري وكري، ومن طلع من داره قلّ مقداره، ويقولون بالفصحى: وطني وإن جار عليّا عزيزٌ ، وأهلي وإن ضنّوا عليّا كرامُ،  وحتى مع وجهة النظر المعقولة في هذه المعتقدات ، غير أن الأرض ، كل الأرض لم تستوطن إلا بالراحلين عن أوكارهم وعن أهاليهم ومكان سقوط الرأس، إما قادتهم التغيرات المناخية أو توابث راسخة لا تعتني بالفردانية، أو الهروب من العبودية على أشكالها أو الهروب من الملاحقة القانونية أو الاعبثية ،ولا أحد منّا يعرف جازما أين مسقط رأس أول جذر جذر في شجرة العيلة التي خرجنا منها ونسمي اليوم مكاننا الحالي وكري وكري على لسان الطير، الطير الذي ويللمفارقة يهاجر في رحلات الشتاء والصيف.

بدأت فكرة الكتابة عن وكري، حينما فاجأني صديق بأنني سأكون وطنية فيما لو اخترت البقاء هنا، في ليبيا، لم تكن المفاجأة في أنه يرغب صادقا في بقائي هِنه، إنما في مدى وثوقه من ميزان الوطنية الذي استخدمه، وهذا ما دعاني للتفكير في الكتابة عن تجربتي في البعد عن وكري، وماذا حدث خارج وكري، وماذا لو كان هناك أيضا ، بنيت وكري،

إذا الصورة للوطن وللوطنية، تبدو أشبه بنمط عاطفي، كما هو تجاه الأم ، والتي فقدت في الواقع صورتها الطبيعية كونها بشرية، تنطبق عليها كل مواصفات النوع الذي يقابلها، ربما لن تكون حنونة، أو مهتمة، ربما لم ترغب في الأمومة، ربما شريرة، قاسية، مجرمة ،مريضة نفسيا وتكون أما في ذات الوقت، تماما كما الأبوة، قد تعتقد/ يعتقد من يقرأ الآن أنني أبتعد عن الفكرة ، لكن الوطن الذي يشبّه غالبا بالأم لا يسمح التنميط برؤيته في صورته الواقعية، بل يفترض أنه حينما يذكر أحدهم مفردة الوطن ، أن تقابلها الغربة كجواب شرط ، أو الهجرة، أو اللجوء، أو أي كلمة مصنفة عكسية للوطن و تحتشد بكل الشرور، وأنه على كلمة الوطن أن تترك عيوننا مزغللات بالدموع. ماذا إذا بكّاني الوطن، نعم الجواب جاهز: بلدي وإن نننننننننن،

 الوطن الأب

بصورة عرضية في إحدى حصص اللغة الهولندية في السنة الثانية لي في الأراضي المنخفضة، مرّ لأول مرة أمامي التعبير (البلد الأب-The Fatherland) وفاجأني، إذ أن البلد الأم واللغة الأم هو كل ما أعرفه حتى تلك اللحظة، فاسترزنت اللفظ، ولم يجري برشاقة فوق لساني ، غير أنه أثار فضولي ووقعت في غرامه ، فادر لاند تعبير شائع في بلدين هما روسيا وألمانيا، ولأن هولندا بلد مرتبط ومتشابك تاريخيا وثقافيا وبشكل يدعو للعجب مع ألمانيا فكان من اللطيف أن أعرف وقتها أن تعبير البلد الأب استخدم في هولندا في فترة ما تأثراً بالألمان على ما فهمت، ولأنني كنت امرأة معطوبة في تلك الحصة، لوافدة جديدية من وكر الزهر والحنّة مسد  التعبير الجديد (الوطن الأب) كدماتي، فالوطن الأب ينام في قبر بشط الهنشير في موته الأول، لأنه وفي 9/7/2014  وأنا أطلب اللجوء بمطار سخيبول بأمستردام، انتحبت كما لو أن بوي مات للمرة التانية.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :