زهايمر

زهايمر

 حرية سليمان

           1                                   

بصعوبة يجاهد للنهوض، يجرب ولا يقوى، تخذُلُه قدماه. تمد يدها إليه لتساعده. يود لو يبوح لها بجملة يعرف مسبقا رد فعلها حين تسمعها ؛ فيبدل الجملة بأخرى لها ذات التأثير على الأخرى لمجرد أنها تشبهها، بلْ ربما كانت هي. لكنها لن تعترف، ستظل تلقنه تلكَ المعلومة يوميا كدواء مضاد للألزهايمر. ستخبره أنهما مجرد نسختين مكررتين، وأن هذا التشابُه العجيب ليس أكثر من مصادفة سببتهَا انقسامات الخلايا، وسُلطَة الجين السائد واختفاء المتنحي. ستطالبه أن يردد عبارتها كي لا ينسى، وسيفعل كمجنون ليتجنب توترها اللحظي. سيكون الأمر مريحا نسبيا، ما الضير في ذلك طالما لهما الوجه نفسه، ونصوع الأسنان، والعينين العسليَّتَين، والأنف الصغير ذي الشامة في المنتصف.

وربما قبل ذلك سعة الأفق في التعامل مع ضعفه وهشاشته.

           2                                   

لا يعرف لماذا ذهبت ليلى”. لم تكن تشكو شيئا..لم ينتابها مرض أو كآبة أو شيخوخة. لكنها ذهبت بكل الهدوء الذي يسبق عاصفة .

بعد أعوام جاء ابنته باكيا، والرجفة تملأ كل حواسه. خائفا ملتاعا كيوم فراقها الأول. ممسكا بدماغه. قابضا على عقله. محدقا في المرآة طويلا كمن يحاول حفظ ملامحه.

متفرسا في كل شيء، وكأنه الوداع الأخير.

يدرك أنه ذاهب للأبعد من خيالهما.

لا يرغب بنسيان “ليلى”. يخشى انفلات الأمس والذكريات.سألها أن تفعل شيئا ليتوقف ذلك. اقسم عليها بكل عزيز وغال؛ فأجابته ليس لها سواه. اقترحا بعض الأمور التي بدت منطقية. كررا اسمها معا . تفقدا الصور . قصا الحكايات.

ذهبا للأماكن نفسها. احتسيا الليمون البارد والقهوة وشاي الياسمين. شاهدا saturday night fever..

فيلم “ليلى” المفضل.

           3                        

سؤاله المتكرر عنها يفضي لسكوت مراوغ . يسقط بعده فريسة للوهم. يقول كانت هنا بالقرب ثم اختفت كطائر ردد نشيده في الفضاء وذهب.

افتقدها الأيام الماضية، ومرة حين أستيقظ على صوت الأخرى التي يراها مؤخرا، بات معتادا لديها ارتعاش كفيه وارتباك أعصابه وشروده الدائم . تستفزه بإخفاء حاجاته. أقلام “الشيفر ” الفاخرة التي اشترى بعضها وأهدي إليه البعض. ولاعة سجائره “رونسون” الذهبية بنقش الجاكوار. أمواس الحلاقة وربطات العنق، وأحبهن إليه الجاكار الحمراء الداكنة. علب الدواء. مفكات البراغي والمفاتيح كلها. لم تترك شيئا.

حتى الكناريا وسلحفاته “رولا“!.

          4                                   

عيناه مثبتتان بالملحق الثقافي للجريدة الرسمية. عدد يعود لسنين مضت. بالعدد تحقيق له عن النساء في تراث الثقافات القديمة.

كان صحافيا واعدا مهتما بالحضارة والعلوم الإنسانية. شهادات التقدير تعلو الجدار، وصورة زفافهما في المنتصف. بدت “ليلى” كتنهيدة بعد سنين تعب. التقيا بأحد معارض الفنون. كانت ناشطة حقوقية وفنانة تشكيلية. تزوجا ببساطة. أهداها خاتما ذهبيا يتوسطه حجر “الرودوكروزيت” منحوتا على هيأة قلبين متداخلين صنع خصيصا لها وتلبسه الأخرى دوما.

         5                                     

توقف أسبوعا عن الاسئلة. استبدل ردودها التي لم تعد كافية بمفكرة زرقاء دون فيها كل ما قالته عن أمها. غرف عقله المغلقة توحدت وقطع الآثاث الضخمة الداكنة فكونا جدارا عازلا يكاد يطبق على روحه. ليت له جناحين. رغب لو فتح النافذة واكتشف قدرته على الطيران. لكنها كانت قد أغلقت النوافذ كلها بقواطع الخشب.

بصيص من الأمل المفاجىء ملأ روحه وعينيه ذات صباح عندما أطل بوجهها. قام متجها نحوها بخفه الطبي المهيأ للمشي الطويل. متفرسا في ملامحها بوداعة. مطمئنا. خفيفا جدا على عكس ما يبدو في الحقيقة.. مضيئا كنجمة قائلا:

صباح النور يا ليلى!.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :