بقلم :: سالم التوهامي
لم يألف حسن السفر بالتاكسي لمسافات طويلة، ففيما سبق كانت الطائرة الوسيلة المفضلة لرحلاته بين سبها والعاصمة طرابلس، فالمسافة بين بيته والمطار لا تتجاوز النصف ساعة، ولا تستغرق الرحلة الجوية اكثر من ساعة. ها هو الآن ينزل من تاكسي في شارع المعري، يبحث عن سيارة اجرة الى سبها، الشارع مزدحم، سيارات مركونة بلا نظام، زادت من الازدحام، وما يبدو انه ارتباك للمرور.
توقف عند اول سيارة، … السلام عليكم يا خونا … فيه تاكسي لِ سبها ؟!
لَا، سامحني انا ما زال نفرين وعامد غريان … لكن تاكسيات سبها زيد لقدام … غادي بعد الفيتو السوداء، الجنسية في وجهك على طول .
شكره حسن، وداوم سيره الى الفيتو، التفت على اليمين، الجنسية في وجهه … السلام عليكم … بالله عندكم تاكسي لِ سبها ؟!
وعليكم السلام … فيه ان شاء الله … ادخل .. تفضل … اهو قريب .. نراجوا في سبع أنفار … وبعده نطلعوا ان شاء الله.
– بالله .. بِكم الطريق ؟
– مئة دينار يا خوي.
– ياسر … مئة دينار .. هذه طيارة …
– يا خوي البنزين نشروا فيه من السمسارة، وكل بوابة تحتاج الى ” نحيلة”، ومرات ننحلوهم مضاعف، وان شاء الله يمشي الحال.
جلس حسن على كرسي غلاف مقعده ممزق، وأكثر من نصف الإسفنج منتوف، واحدى أرجله المربوطة بتل تصدر في صوت يزوي مع كل حركة، إي إي إييي … ينظر يمين يسار وعلى وجهه علامات امتعاض من الحالة المتردية للمكان … تذكر مطار طرابلس، الذي اصبح أثر بعد عيّن، وكذلك كل من يراه سبب في الوضع المزري الذي يتكبد معانته الآن ..
– تفضل .. اشرب طاسة الشاهي، حمراء مربربه، الله الله عليها … شوي ويكمل الركاب وتطلعوا ان شاء الله.
تمعن في البراد، المغطى بطبقة سوداء لم ينجو منها الا جزء بسيط من ذراعه، والطاسة التى لقطها صاحب الجنسية من سطل ممتلئ الى نصفه بالماء والطواسي … تردد قليلا .. ثم مَدّ يده، واخد الطاسة، رشفها بصوت مسموع، وكانه اراد بذلك ان تُمسح كبده من دراه الكبد الذي أمامه … أتمها … وطلب اخرى، قائلا: زيد اخرى … صارت صارت … ” اللي رقد للستة يرقد للستين” !!
شيئا فشيئا يزداد عدد الركاب حتى وصل الى عشرة … قال صاحب الجنسية: هانت .. ما زال زوز ويكمل العدد ونطلعوا ان شاء الله ..
حسن شارد الذهن، يخمم في الحال العطيب الذي اجبره على السفر، والمخاطر التى يسمع عنها في الطريق … وهو يقلب الامر في ذهنه، سمع احد الركاب يسال في صاحب الجنسية: طريقكم تمر على مثلث برمودا ؟!
اجابه: لا لا … من يقدر يثّرب لهذاك المكان … خلاص ” نينتي” … الان نلفوا على راس الرجاء الصالح حتى نصل غريان.
فهم حسن ما يقصدونه … الحمد لله … هذا احسن
اخيراً … وصل اثنين ركاب … يبدو انهم عرب غير ليبيين …. السلام عليكم .. احنا عايزين نروح سبها …
أجابهم صاحب الجنسية … ما فيه مشكلة .. كيف أوراقكم ؟!
– كله تمام يا معلم … كله تمام … عايز تبص عليها ؟! وهم يمدون الاوراق والبطاقات .
بدا وكانه يقراءها … لكن هو كان احرص على ركوبهم معه … ميه ميه … هي يا جماعة توكلوا على الله …
انطلقت الفيتو، بركابها الاثني عشر … حسن في الكرسي الأمامي بجوار السائق. مروا على بن غشير، السبيعة، ومنها الى طريق غريان …
حديث الركاب كان فيلم رعب حقيقي، يبدأ جماعة الكرسي الخلفي: سمعتوا ما حدث أمس في طريق المطار ؟! يرد احدهم … لا والله … منك نسمعوا !!
يبدأ يسرد في قصة؛ هذا واحد يسوق في سيارته، وقفوه جماعة بوابة وهمية، عطوه طريحة ” نباش القبور” وبعدين حطوا اطلاقتين في رجليه، وركبوا في السيارة وقالوا يا واحد وستين … وهو خلوه ينزف … حتى جاء واحد مار في الطريق … رفعه للمستشفى … قصَوا رجله اليمين !!
يرد الجميع، تعابير مختلطة … لا حول ولا قوة الا بالله … البلاد خربت … ما عاد فيه آمان … أيه يا راجل، الواحد ايه يقول ؟!
ما ان ينتهي الكرسي الخلفي، حتى يبدأ الكري الوسطي … سمعتوا ؟!
لا ما سمعنا … ايش صار ؟!
مع كل قصة يلتفت حسن في نهايتها الى الكرسي الذي ورائه، وفيه الراكبين الاخيرين .. يرى الدم ينزح من وجوههم، وعلامات الخوف والرعب تظهر عليهم بوضوح … القصص التى سمعها ادخلت عليه أيضا الخوف، لكنه تظاهر برباطة الجأش … يقول لهم … عادي … عادي … هذه حاجات بسيطة ، ونصها اشاعات. تظهر ابتسامة صفراء على وجهيهما، مع همس بسيط يخفت مع كل قصة: ايوا صحيح يا بيه.
بعد غريان بتقريبا خمسين كيلومتر، التفت عليهم، وقال:
توا ما فيه غير السماح … صحراء بس
وما ان اكمل جملته حتى بانت في الأفق سيارتين، واحدة تبدو على الطريق، والاخرى تبعد بين الثلاثين والخمسين متر عنها … اكمل جملته … ان شاء الله خير
خفض السائق سرعة السيارة، حتى أصحبت بمحاذاتهم، توقفت تماما عند السيارة المتوقفة على الطريق. ثلاث أفراد يلبسون ملابس عسكرية مرقطة، يسمونها في ليبيا اليوم ” مموهة”.
– وين بيها ؟!
اجاب سائق التاكسي: السلام عليكم … تاكسي … اطناش الراكب … على سبها ان شاء الله.
– كلهم ليبيين ؟!
– لا فيه أثين عرب.
– عندهم أوراق، واجراءتهم مزبوط.
– ميه .. ميه ، كل شيء تمام
– باه … قول لهم ينزلوا
نزل الراكبين، وهم يرتعشون من الْخَوْف الظاهر على وجوههم.
– هات الاوراق والبطاقات
– تفضل يا أفندم
– قلبوا الاوراق يمين أيسار … ايمين أيسار … فوق … لوطا !! وين بطاقة التطعيم متاع الإيدز ؟!
– أقلت ايه يا أفندي ؟! إيدز … هو فيه تطعيم للايدز عندكو ؟!
هيا تعال معاي …
تبعه الراكبين الى السيارة القاصية عن الطريق.
انتظر الركاب الباقون على احر من الجمر، ينتظرون نتيجة مداولات الافندية مع رفاقهم في السفر … بعد تقريبا عشر دقائق رجع الراكبين، ركبوا السيارة … أغلق الافندي الباب، وهو يقول: بَرّا مع السلامة …
بدا الذهول على وجه الراكبين وصمت مطبق، ويداهما تقبض بقوة على ذراعيهما … وحسن يحاول ان يسألهم: كيف صار ؟! ماذا قالوا لكم ؟!…
بعد نصف ساعة او اكثر قليلا قال احدهم: الحمد لله عملوا لنا تحليل إيدز … والحمد لله احنا كويسين أهوه … اخذوا ثلاثين جنية من كل واحد فينا …وختموا على ذراعنا، وقالوا تحليل سليم … بسيطة يا عم، ما فيه رصاص !!…
حسن ينظر الى ذراع احدهم والدم يصبغ قطعة القطن التى يقبض عليها، قال: ” يا هارب من الغول يا طايح في سلال العقول” … افتكينا من بوابة الجبس طحنا في بوابة الإيدز …