قصة قصيرة :: المهدي جاتو
تحت شجرة السرول العظيمة في السوق الكبير ، اتكأ الحاج بوكر على فراش من الرمل و سرح في أعماق الفكرة ، يستحضر أزمان مضت ، وأقران غابوا ، وأصبحت ذكراهم كالسراب ، كل من ينظر إليه وهو جالسٌ مع أولئك الرجال يحكي القصص ويرمي بالنكت على أسماع الحاضرين يظن بأنهم أقرانه في السن ، إلا أنه سبقهم في الميلاد بأجيال ، لكنه لا يزال يتمتع بوافر الصحة رغم الحياة الطويلة التي عاشها في بساتين (تادرمت) حيث مارس مهنة الفلاحة البدائية ، مما جعل يد الله تكافئه بسخاء ،وتمد من أجله لأمد آخر .
كانت أصوات الرجال ترتفع عالياً في حده وتخفت ، وهم يلعبون (الدره) حيث أحتفروا الرمل بأصابعهم على شكل مربعات شطرنجية ، ورموا فيها بضع أحجار وقد دأب الكثيرين من قبلهم على ممارسة هذه اللعبة .
وفجأة ألتفت (أمومن) موجهاً حديثه للحاج ..
ـ أرأيت ياشيخنا لقد انتصرت عليه .
نظر إليه الحاج بوكر بنظرة جانبية متأنية ..
ـ لم تنتصر عليه بعد .
وقبل أن يكمل رد أمومن مستنكراً .!
ـ لا أدر لما أنت دائماً تسانده بينما الحقيقة واضحة للكل بأنني تغلبت عليه .
ـ لم تنتصر لأنه غلبك مراراً ، ومازلت تحمل في جعبتك له دين ، ولم تقضي منه إلا القليل ، ولكن لا تقلق فلديك الفرصة الحقيقية في السابع والعشرون من هذا الشهر ، فتجهز .
زفر أمومن بشدة وهو يضبط بأحكام الشاش على رأسه وغادر ، بينما الجمع قهقهوا عالياً ، وارتسمت ابتسامة على وجه الحاج بوكر .
أستمر الرجال في التسلية ، عندما نظر الحاج إلى السوق المكتظ ، وهو يتأمل في الباعة والمشتري الخضار ، بمناسبة حلول الشهر رمضان .. وأثناء تجواله ذاك أقترب منه (خاميد) حفيد الشيخ سيدي قادماً من (البركت) .. همس في أذنه بعد أن ألقى التحية ..
ـ أرسلني جدي إليك كي أذكرك بموعد ( إنتيسمت) .
أجاب الحاج بوكر على الفور واضعاً في كفي الرسول بضع ثمرات .
ـ بلغه تحياتي وقل له سنكسب الرهان .
كان بجانبه قليل من البرتقال أشار إليه قائلاً ..
ـ خذه إليه .
قطعت السحابات مئات الكيلومترات ، من بر البحر إلى بحر الرمل العظيم ، لتغطي سماء غات وكأنها هي الأخرى على موعد للاحتفاء بيوم الملح .
خرجت مجموعة من رجال منطقة بركت يحملون سلال من السعف وبعض المعاول والفؤوس لزوم الحفر ، بينما خرجت مجموعة أخرى مصحوبة بأدوات مشابهه رفقة الحاج بوكر من غات ، وكانت نقطة التلاق إنتيسمت بقرب منطقة تنجرابين ، تلك الأرض الطينية ذات الرداء المالح الخالية من الحياة ، إلا من تلك الأعشاب المجاهدة ، أو ذاك النخيل الشامخ رغم صفعات الزمن .
لكن إنتيسمت أبت إلا أن تضع بصمتها في الحياة رغم تسرب الحياة منها ، فمنحت الناس الملح ذلك الكنز النفيس ، مما جعل الناس يقطعون كل تلك المسافات احتفاءً بتلك اللقية .
نظر الشيخ سيدي إلى الحاج بوكر بعين ماكرة تخفي سراً ، إلا أن الحاج كشف مضمون النظرة ، و تبادلا بعدها التحايا وكذلك الجمع فعل .. والتيار الذي آتى بالسحابات بدأ يصفع الوجوه ، فأحكم الكل اللثام وقال الشيخان (بسم الله)
وترددت البسملات من تحت اللثام ، والتي متزامنة مع إيقاعات الفؤوس في البحث عن الكنز .
أقترب الحاج بوكر من أمومن مذكراً إياه بالهزيمة الأخيرة في لعبة ( الدره ) ..
ـ الآن حان موعد التنافس .. فعلى أمومن الآن أن يبرهن للجميع مقدرتك كي يلجم الكل وليس فقط رفاقه، بل جميع الحاضرين .
نظر أمومن في عين الحاج ، وقبل أن ينطق وافاه بجملة أخرى ..
ـ أنسى ما مضى فداك درب اللعب وهذا درب العمل ، فشتان بين الدربين ..
وأدار وجهه عن الشيخ وبصق بصقه أرتعب منها خنفس يمر بالجوار ، وأثناء العمل شمر عن ساعديه وبدأ في أول إزاحة لحجر الطين الذي كشف عن مملكة النمل الأحمر .
كان التنافس على أشده في الجانب الآخر ، حيث كان الشيخ سيدي يحرض جماعته بشده لكسب الرهان .. تعالت أصواتهم المختلطة بالهرج والمرج وبين تلك الأغاني الجادة المحرضة على بدل مزيداً من الجهد .
تكوم الملح هنا وهناك وقبل أن تنسحب الشمس وتتلاشى بقايا السحب من الميدان توقف الجميع إذانا بموعد الرحيل تم إحصاء السلال التي تساوت في العدد .. فمد الشيخ سيدي يده مصافحاً :
ـ تعادلنا إذاً ..
الحاج بوكر : سنرى الموسم القادم بماذا يعد ولوح بعصاه في الهواء ، وبدأت على الفور مراسم الرقص والغناء صحبة أنغام ( تندي ) في هذا العيد المسمى ( أكتدي ) الذي دأب أهل غات الاحتفاء به في السابع والعشرون من شهر رمضان ، في كل عام .
تفرق الجمع وعلامات البهجة على الوجوه تفوق كل تصور ، فحيث استقرت رؤوس المعاول والفؤوس ، داست الأقدام المتشققة الأرض رقصاً وانطلقت من الحناجر صرخات الزهو عالياً .
في رحلة العودة أقترب الحاج بوكر من أمومن قائلاً : ـ
ـ أراك قد أحسنت صنعاً اليوم بتفوقك ، ولقد كنت المنتصر بجدارة مقارنة بأقرانك الذين تباطئوا قليلاً مما جعلنا نتعادل مع البركتيين
رد أمومن : ـ
ـ كنت على يقين بأن الغالب هو من سيضحك في الآخر .
وضع الحاج بوكر يده في يد أمومن وردد قول الله تعالى (( والآخرة خير لك من الأولى )) .
ابتسما .. ومن خلف سلسلة جبال أكاكوس ، كان قرص الشمس بدأ بالاختفاء .. وكأن نصفه الظاهر في تلك اللحظة يسترق السمع والنظر .
تادرمت : أحدى أحياء القديمة ، بمدينة غات .
دره : لعبة شعبية يمارسها الأهالي أثناء الراحة .
بركت : أحدى بلدات غات المحاذية للحدود الليبية الجزائرية .
إنتيسمت : حارة الملح .
تندي : نوع من الغناء الشعبي .
أكّتدي : عيد له أشعاره ونغماته الخاصة .