بقلم :: محمد جمعة البلعزي ( صحفي ليبي مقيم بمدريد )
مر شهران على وفاة الكاتب والأديب الإسباني الكبير، خوان غويتيسولو، الذي وافاه الأجل في مطلع يونيو الماضي،ولم تعد الصحافة الإسبانية تذكره إلا نادراً، ورغم حضوره البارز في الحياة الأدبية والثقافية لإسبانيا طيلة العقود الستة الأخيرة، إلا أن الغالبية لم تغفر له قراره الذي اتخذه في منتصف تسعينات القرن الماضي، عقب وفاة زوجته الفرنسية، باختيار مدينة مراكش المغربية مقراً لإقامته الدائمة، تاركاً بلاده إسبانيا ومسقط رأسه برشلونة.
تعرفت على شخصية خوان غويتيسولو في النصف الأخير من ثمانينات القرن الماضي، عندما اعد وقدم للتلفزيون الإسباني سلسلة وثائقية بعنوان “القِبلة”، كانت عبارة عن سرد وتتبع لحقبة الإٍسلام في إسبانيا بالصور والشواهد،وتمكن بواسطة تلك السلسلة، التي دامت أعواماً، من تصحيح وتغيير العديد من المفاهيم الخاطئة حول تاريخ الإسلام في الأندلس، وكم كنت، كغيري من الإسبان وخاصة اهل الاندلس، حريصاً على متابعة حلقاتها الأسبوعية، وقد عرفت من خلالها العديد من الجوانب المضيئة للأندلس الإسلامي كانت غائبة أو مغيبة.
ربطتني بخوان غويتيسولوعلاقة شخصية بالريموت [عن بعد]، منذ سنة 2009، على إثر إعلان رفضه قبول ما كانت تسمى زلفى “جائزة القذافي العالمية للآداب”، ما شجعني ودفعني للبحث عنه والاتصال به حيثما كان لتهنئته على قراره الشجاع. وقد عثرت عن طريق عدد من الأصدقاء المغاربة، على عنوانه ورقم هاتفه الشخصي وبريده الالكتروني،فتواصلت معه وتبادلنا الأحاديث،هاتفياً وكتابة، حول كتبه ومقالاته التي غالباً ما كانت تنشرها له صحيفة الباييس الإسبانية، صحيفته المفضلة.وكنت قد اتفقت معه على ترجمة جميع مقالاته ونشرها في الصحف العربية، فوافق في الحال وشجعني على ذلك، بعد أن كشف لي عن حزنه العميق لأن العرب لم يهتموا بكل ما يكتبه مكتفين فقط بترجمة بضعة من مؤلفاته التي اشتهرت عالمياً.
كنت اتحين الفرص لألتقي به خلال زياراته الخاطفة إلى أسبانيا،البلد الذي أقيم به منذ أمد بعيد، ولكن زياراته لها كانت قليلة للغاية، لكن الحظ لم يسعفني بذلك إلا قبل وفاته بشهر ونيف في حفل تكريم أقيم له بضواحي مدريد، حينها أدركت أن صورة غويتيسولو لم تعد تلك التي عرفتها عنه، فقد كان هزيلاً شاحباً وقد عصي عليه السير بعد أن بلغ من العمر عتياً، وخاصة إثر وقوعه على الأرض في مراكش ثم نقله للعلاج إلى مستشفى ببرشلونة. كان يجول بنظرات موغلة تائهة وكأنه يودع هذا العالم، تمنيت حينها لو عرفته قبل تلك اللحظة بسنين، لكنت أدركتحينها حيويته وطلاقة لسانه وغزارة حديثة المليء بالشجون، كان موسوعة لما عاشه وعاناه في كنف عائلة منقسمة الأوصال وبلد مزقته الحرب،وقتلت أمه في قصف على برشلونة، والمنفى شبه الإجباري في باريس الذي حاز على جانب كبير من حياته، وبها تعرف على زوجته، ثم منفاه الطوعي في مراكش بعد وفاتها.
مات غويتيسولو الذي طالما أحبه وقدّره أهل مدينة مراكش واحبهم، واعتبروه ابنهم المفضل، ذلك الرجل الذي تبنى عدداً من أطفال مراكش الفقراء وتولى رعايتهم وتربيتهم منذ سنوات، وأصبحوا اليوم بدونه يتامى يتوسلون الدولة المغربية الإنفاق عليهم بعد أن رحل عائلهم الوحيدإلى الأبد.كان باب بيته المراكشي مفتوحاً لكل من هب ودب وقصده، وكثير ما كان يراه الناس يسير رفقة صاحبه ورفيق وحدته، المغربي عبد الهادي، وسط ساحة جمعة الفنا المراكشية.
كانت وصية غويتيسولوأن يدفن في المغرب، وتحديداً في المقبرة العامة بمدينة العرائش، هناك حيث يرقد صديقه الأديب الفرنسي جان جانيت،ولا ريب أن يتحول مرقد غويتيسولو إلى مزار لعشاق أدبه وكتبه ومريديه واتباعه.ربما تحول قبر غويتيسولوإلى مرقد ” مرابط علماني” بالنسبة للأخوة المغاربة الذين عايشوه عن قرب، بغض النظر عن كونه كاتباً أو أديباً عالمياً له قراء في مختلف قارات العالم. ربما أصبح قبره يعرف يوما ” قبر سيدي خوان الصبانيولي”، وربما تحول إلى ضريح يؤمه الزوار من كل حدب وصوب، فقد ملك غويتيسولو قلوبهم إلى درجة أنهم نسوا معها أنه من ديانة نصرانية حتى وإن لم يكن يؤمن بها إطلاقاً.
الجميع في مراكش عرف عن ” سيدي خوان” طيبته وسعة صدره للكل ومزاحه معهم وجلوسه المتواضع بالمقاهي والمطاعم الشعبية بالمدينة. وقد نقل أحد الصحفيين الإسبان المعروف بتخصصه في الشأن المغاربي، عن غويتيسولو قوله ذات مرة، أنه دعا أحد الدبلوماسيين الإسبان للغذاء بأحد المطاعم الشعبية بمراكش، وبدأ الدبلوماسي يتأفف من المكان دون أن ينبس ببنت شفة، ولم يأكل إلا النزر اليسير مما أعد من طيب الطعام وأجوده حفاوة بالدبلوماسي، لكن هذا المترفع لم يأبه لذلك ولم يتماسك نفسه بلتنطع ليصف المكان “بالمبتذل والسوقي!!”. كان غويتيسولو يدرك أن “سعادة الدبلوماسي”ينتمي للطبقة الأرستقراطية الإسبانية، فأراد إنزاله من علياه، وكان له ما أراد.
عاش غويتيسولو حياة “معلم” حسب وصف الفرنسيين له، ففي كل حادثة وطنية أو دولية كان صوته يجلجل موافقاً أو معترضاً، كان صوته ينطق عقلانية قريباً من الناس ومعاناتهم، مدافعاً قوياً عن حرية الانسان والعدل والثقافة. كان آخر عمالقة القرن العشرين من المبدعين، ولم يقتصر فكره على إنتاج أدب من برجٍ عاجي، بل أقحم نفسه في قضايا زمنه النبيلة، شأنه في ذلك شأن الأديب الفرنسي إيميل زولا في “أنا اتهم”. كان خوان غويتيسولويعبر عن اشمئزازه مما يقوم به الجهاديون باسم الاسلام زوراً، في الوقت الذي هاجم فيه دوماً غباء وتسلط الطبقة الحاكمة في الغرب وشهوتها إلى الحرب باسم الديمقراطية بهتاناً.
غويتيسولو لم يكن يعترف بأي وطن، كان وطنه الكون ومواطنه الإنسان، كان يقول إنوطنه الوحيد هي لغة سرفانتس، اللغة الإسبانية التيتواصل بها مع الإنسان الآخرونقل بها مشاعره وعبر عن أحاسيسه بأنبل قضايا الإنسان.
كان غويتيسولو شاعراً وراوٍ وكاتباً ومراسل حرب، وضحية للحقبة الفرانكوية الإسبانية. كان يعترض دوماً على القانون الوطني الكاثوليكي الذي ربط الدولة ببراثن الكنيسة، كان يكره تاريخ إسبانيا الأسود منذ طرد المسلمين واليهود وملاحقة اللوثريين (الاصلاحيين) والتنويريين والليبيراليين والجمهوريين والشيوعيين، أو من كانوا يسمون بالحمر.كان يشعر بالامتعاض من إسبانيا الفرانكوية وورثةالدكتاتور فرانكو الذين يرفضون القبول بأن إسبانيا خليط رائع من الشعوب والأجناس والعرقيات.
لهذا، رغب خوان غويتيسولو الموت في مراكش وأن يوارى جسده ثرى مدينة العرائش، قريباً من مياه البحر الذي رآه يولد في برشلونته الأصيلة، وجوار رفيق صباه جان جانيت، واعترافاً بالجميل للمغرب واهله الذين آووه واحتضنوه، رافضاًأن يدفن تحت تراب البلد الذي نبذه منذ صباه. وبوفاته فقدت الثقافة واللغة الاسبانية رجلاً عظيماً وعموداً من أعمدة الأدب العالمي، ومن حبهلدنيا العرب وتاريخ الإسلام والمسلمين، عاش بين ظهرانيهمحتى الرمق الأخير.
ربما أتيحت لنا يوماً فرصة زيارة قبر “سيدي خوانالصبانيولي” للترحم على روح إنسان عرف قدر ومعنى الإنسانية وعاش لها ومن أجلها رافضاً كل المغريات الدنيوية المادية، ليصبح عبرة للآخرين. فهل تطوع مسئولونا في بلادنا الحبيبة بإطلاق اسمه على أحد شوارع عاصمتنا إكبارا واعترافاً بموقفه النبيل الخالد، وتكريماً من شعب ليبيا للرجل الذي وقف شجاعاً رافضاً مغريات حاكم تجلت الدكتاتورية في عهده في أحط معانيها. عل ذلك يحدث عن قريب!!.