فسانيا :: زهرة موسى
رغم سراب الرمال و أشباح العطش و الموت التي تحرس حدود ليبيا إلا أن أعدادا كبيرة من المهاجرين تقصد ليبيا سنوياً.. مهاجرون تختلف جنسياتهم و أحلامهم العابرة لحدود ليبيا التي يراها البعض أرضا خصبة لحياة أفضل ، أما البعض الآخر في لُجّها كم عبر حلم إلى الدول الأوربية . و خلال السنوات الأخيرة تزايدت نسب المهاجرين بسبب الحدود المباحة ، التي جسدت فرصة ذهبية لتجار و مهربي السلاح والمخدرات والوقود والسيارات ، بل و تجارة البشر من داخل ليبيا إلى خارجها أو العكس . وها هي فسانيا تلتقي بـ “عمر”وهو أحد المهربين الذين يمارسون التهريب منذ عدة أعوام ليروي لنا تفاصيل مغامراته مع المهاجرين . ” عمر شاب يبلغ من العمر حوالي الثالثة والثلاثين عاماً ” اعتاد التردد على ليبيا كثيرا لغرض التجارة ، فقد كان يعمل كسائق عند أحد التجار ، وبالرغم من أن عمر درس وتخرج من إحدى الجامعات النيجرية ، إلا أنه ترك العمل في مجاله الأساسي كمدرس و امتهن السفر و التجوال والتنقل بين النيجر وليبيا .
و كان دائماً ما يردد قصصاً مثيرة عن مطاردته من قبل حرس الحدود في طريق السفر الممزوجة بمشقة للوصول إلى بر الأمان مع حمولته البشرية من الركاب الذين يُعرفون باسم ” مهاجرين غير شرعيين ” . يقول السيد عمر ” جئت إلى ليبيا في عام،2012 و كانت هذه أول مرة أبقى فيها هنا لفترة طويلة ، فلطالما كانت زياراتي السابقة تقتصر على المدن الحدودية كـ” القطرون” . وهذه المرة أيضاً في زيارتي الأولى لمدينة سبها ” حيث حللت ضيفاً على ابن عمي المتزوج الذي يقطن هنا منذ ما يقارب عشرة أعوام . و بقيت في سبها حوالي 3 أشهر ، ثم عدت إلى النيجر . عدت من جديد إلى ليبيا بعد فترة قصيرة ” بعد مرور شهر ” وقد بدأت هذه المرة عملي كسائق عند أحد التجار المقيمين الليبيين ، وشمل عملي نقل البضائع و الركاب أيضا ، لقد استمتعت بهذا العمل الرائع ، فمابين عدة أسابيع و أخرى كنت أسافر ذهابا و إيابا بين النيجر وليبيا ، و أنا أحب السفر و التنقل خاصة في طبيعة الصحراء الرائعة وجبالها الراسية ، وكم كنت أستمتع بالطريق و المناظر الطبيعة أثناء سفري برفقة عدد من السائقين .
مَالكُو الشّاحنَات شَحِيحُو الْجُـيُوب
استمر السيد عمر بسرد الحكاية قائلاً ” بعد مضيّ فترة من العمل اضطررت للتخلي عن العمل مع مالك السيارة ، واختلفنا بخصوص ماهيتي المالية فقد كان شحيحاً بعض الشيء ، ولم يكن يعطني حقي باحتساب ” مبلغ جيد ” لي كزملائي السائقين . تركت عملي بعد عام واحد ولكن هذه المرة لم أرغب في العودة إلى النيجر ،وبعد تجربتي كسائق مع ذلك التاجر البخيل بدأت أبحث عن فرصة عمل جديدة ، وحالفني الحظ حين جاء أحد أقاربي عارضاً عليّ العمل كبائع في محله ، و بدأت فعلاً العمل معه و استمررت لعدة أشهر أعمل كبائع للمواد الغذائية ، و صادف آنذاك نشوب حرب بين القبائل في مدينة سبها عام 2014 ، مما اضطرني لترك العمل ، فبقيت عاطلا حتى بدأت ملامح الحياة تعود للمدينة من جديد . الْمِهْنة الذّهبيّة للسّائقِين الْمُـعْدمِين ويسترسل السيد عمر في حكايته مع دروب الصحراء التي عادت لتلوح له من جديد في الأفق فيقول : ” لم أكن أستطِع البقاء طويلا بلا عمل ، لذا استأنفت بحثي عن فرصة أخرى حين عرض عليّ أحد أصدقائي أن أعمل مع قريبه الذي يبحث عن سائق متمرس يجيد السفر عبر الصحراء ولديه خبرة العبور براً بين النيجر و ليبيا بعد تخلي سائقه عنه . لم يكن الأمر كما اعتدت عليه سابقاً فهذا العرض المغري ليس مهمة تجارية سهلة ، وسيشكل خطرا على حياتي وعلى حياة المسافرين ، فهذه المرة سأكون مهربا عبر الحدود ! أطرق عمر واستجمع كلماته سارداً ما حدث : ” في البداية لم أُرِد الدخول في هذه المتاهات و الزّج بحياتي في دوامة المطاردات الدائمة من حرس الحدود ، والعيش مع الخوف من العقاب ، فإذا تم إلقاء القبض عليّ في الحدود النيجرية سيتم سجني ما يقارب خمسة أعوام ، وربما سأتلقى نفس العقوبة إذا لم تكن أكبر من ذلك لو تم القبض عليّ في الأراضي الليبية . والهاجس الأصعب يكمن في تحمل مسؤولية الأشخاص المسافرين معي كحمولة بشرية، فأيّ أذىً سيتعرضون له سيكون بذمتي .
الْبَشَر حُـمُولَة الـْمُهرّبينَ الثّـميِنة
و تابع …” كل تلك الأفكار طرأت على ذهني ، و فكرت مراراً و تكراراً ، ولكن لم يكن لديّ حلّ آخر ما دمت أريد جني المال وأنا لا أتقن العمل إلا سائقا ، فهذا العرض يعتبر فرصة ذهبية مقارنة بعملي السابق، لأني سأتحصل على مبلغ جيد ، فيما مضى عند عملي كسائق بطريقة رسمية كان يدفع لي 300 د.ل مقابل كل شخص ، ويتم وزن أمتعتة الركاب ويدفعون مبلغا بسيطا مقابل كل كيلو غرام من الأمتعة ، أما في العرض الحالي سيدفع كل راكب عن نفسه 1500 د. ل – هذا في حال أن المسافر يريد الدخول إلى ليبيا – وقد يتراوح عدد الركاب من عشرين إلى خمسة وعشرين راكبا ، مما يعني حصولي على مبلغ جيد في نهاية المطاف . قَوافِلُ التٌـهْريبِ الْعَـابرَة لأضْغاثِ الْـحدُود يروي عمر دخوله عالم التهريب عبر الحدود قائلاً : ” بعد تفكير عميق اتخدت قراراً بخوض هذه المغامرة الخطيرة ، واتفقت مع صاحب السيارة وأعددت العدة لذلك ، وتكلمت مع أصدقاء لي يمتهنون التهريب واتفقنا بأني سأخرج برفقتهم ، فمن الصعب أن أخرج سائقاً وحدي ، والأكثر أماناً هو الخروج في جماعات مع عدة سائقين في نفس الوقت وذلك تحسبا للطوارئ ، لنساعد بعضنا البعض إذا تعطلت إحدى السيارات ، وأيضا كي لا نتوه في الصحراء. في الرحلة الأولى خرجت و عدة سائقين من مدينة سبها ،وما هي إلا ساعات قليلة حتى وصلنا إلى مدينة القطرون ، حيث استعددنا من هناك للخروج ،ومع الفجر انطلقنا إلى النيجر ، وكانت هذه الرحلة صعبة بعض الشيء فقد قاسينا كثيرا و تعرضنا للمطاردات في الحدود النيجرية ، ولكننا وصلنا لمبتغانا سالمين بعد يومين من السفر ، وهكذا انتهت رحلتي الأولى بسلام . عند وصولنا إلى النيجر تحدثنا مع المسؤول عن تسليم المهاجرين ، حيث قمنا بتسليم المجموعة التي بحوزتنا ، وبقينا عدة أيام ارتحنا بها وتنزهنا بمدينة أغاديس قرابة العشرة الأيام ، حتى اتصل بنا المسؤول عن تسليم المهاجرين ،وأبلغنا بوجود مسافرين جاهزين حيث علينا السفر إلى “الحدود النيجرية
مٌربّعٌ التّهريب الأسود نيجريا -النيجر- تشاد -ليبيا
أعرب ” كانت رحلة العودة إلى ليبيا أصعب وأكثر مرارة،حيث ذهبنا إلى الحدود النيجيرية وبمجرد الوصول إلى هناك كانت حمولتنا من المهاجرين جاهزة ” حيث تعرفنا عليهم وأخذ كل سائق مجموعة من المهاجرين ، مع العلم أن عدد المسافرين يختلف في الذهاب و الإياب ، فعند نقلهم من ليبيا إلى النيجر قد يكون عددهم خمسة أو ستة أشخاص لأنهم قد يحملون معهم أمتعة كثيرة ،ولكن عند دخولهم إلى ليبيا من النيجر يكون عددهم أكثر حيث يبلغ حوالي 25 راكبا ، لأنهم لا يحملون إلا زادهم فقط ، وهكذا انطلقنا من الحدود النيجرية عابرين النيجر إلى حدود دولة تشاد ومن ثم إلى ليبيا ، كي نشتت انتباه حرس الحدود و نتجاوزهم بسلام ، وبالفعل وصلنا بعد عدة أيام إلى القطرون ، وهكذا انتهت رحلتي الأولى كمهرب . أفاد ” ولكن لم تقتصر مهمتي كسائق تهريب على نقل المهاجرين فأحيانا ننقل الوقود ، ورحلة الصحراء لا ترحم حيث تعترضها كثير العوائق : فأحياناً قد تتعطل السيارة في الخلاء ولا نستطيع إصلاحها كما حدث معي ذات مرة ، عندما تعطلت السيارة ولم نستطع إصلاحها في منطقة قريبة من النيجر ، فقام السائقون المرافقون لي بتوزيع حمولتي من الركاب على سياراتهم ، وبعدها جلبوا المساعدة لتصليح السيارة . أظهر ” فنحن السائقون كما أسلفت نخرج في مجموعة شاحنات ” ما يقارب 30 سيارة أو أكثر” هذه القافلة تخرج للرحلة في نفس الوقت أو أوقات متقاربة ، وهذا يساعدنا كثيراً ، حيث نتكاثف في حالات تعطل سيارة ما أو نقص الماء ، أو نفاذ مخزون الوقود فدائما ما تواجهنا هذه المشكلات .
مُـهَربٌونَ فِي قَـبْضَة الْـعَدالِة
تستمر تفاصيل رحلات التهريب مع عمر الذي خاض العناء المتربّص بهذه الرحلات التهريبية راوياً مايلي : ” وفي بعض الأحيان تتناهى لمسامعنا قصص المهربين الذين تعرضوا لمطاردات حرس الحدود وفشلوا في النجاة بأنفسهم ، فتم القبض عليهم و سجنهم ،و إن لم يتم دفع كفالة مادية لإخراجهم فسيقضون مدة الحكم بالسجن كاملة. أفاد ” أما بعض المهربين فيلقوْن مصيرا آخر حين يتعرضون لحوادث سير خطيرة ،فيعاني هو وحمولته من الركاب إصابات بالغة قد تؤدي إلى الوفاة. وقد تزداد حدة و عنفا فمطاردات المهربين من قبل الجنود الفرنسيين في حدود النيجر كما حدث في الفترة الماضية حين تعرضنا لمطاردة شرسة جدا من الفرنسيين عند الحدود النيجرية ، وبصعوبة بالغة استطعنا النفاذ منهم عندما توقفوا عن مطاردتنا بالقرب من الحدود لليبية . و أردف السيد عمر : “نحن السائقون أيضاً قد نتعرض لظلم مالك السيارة أو المسؤولين عن تجميع وتسليم المهاجرين ، فهم أحياناً لا يعطوننا حقنا كاملاً بعد خوضنا لكل هذه المخاطر ، وقطع مسافات كبيرة في الصحراء القاسية ،و تحملنا مسؤولية إيصال الأشخاص إلى بر الأمان . فنحن السائقون قد نقوم بملْء خزان السيارة بالوقود اللازم لرحلة السفر من مالنا الخاص حين لا يتكفل مالك الشاحنة بذلك ، فبعض مالكي الشاحنات يتصفون بالشُح ،رغم كسبهم أموالا طائلة على حساب المجازفة بأرواحنا في كل رحلة
تِجَارَة الْـبَشَر بيَـْن ” الـتّسْليمِ – واسْـتِلام الْكَاش”
استرسل عمر في حديثه ” يحدث أحيانا أن يقوم المسؤول عن المهاجرين بغلق هاتفه ، ففي إحدى المرّات أدخلت إلى ليبيا حمولة أشخاص من نيجريا اشتملت على مجموعة من” الهوسا و مالي ” وعندما اتصلت بمسؤولهم في ليبيا وجدت رقمه مغلقا بالرغم من تحدثي واتفاقي معه قبل دخولي إلى ليبيا ! وبعد عدة محاولات اتصلت بمالك السيارة فأدهشني رده بعدما أخبرته عما حدث معي ” حيث قال: قم ببيع الركاب إذا لم يرد عليك مسؤولهم إلى الغد ” ! فأجبته كيف لي أن أبيعهم وهم مسلمون مثلي? كما أني أتعامل معهم بطريقة جيدة ، فعبوري بهم بطريقة غير شرعية عبر الحدود لا يعني أن أسيء معاملتهم بضربهم مثلاً أو إيذائهم. كنت في رحلاتي دائما ألتقط الصور معهم وهم ينادوني “برادر / Brother- أي أخي بالإنجليزية ” ، دفعني حوار صاحب السيارة المستفز للشجار معه ، وأخبرته بأني لن أبيعهم ولن أسلمهم حتى أحصل على أجرتي كاملة ، وبالفعل هذا ما حدث ، حيث أخدت ركابي معي إلى مزرعة يقطن بها أقاربي وتركتهم هناك لمدة يومين ، و أثمرت تحريات مالك السيارة بأن المسؤولين عن هؤلاء الركاب ” أحدهما بالنيجر و الآخر بليبيا ” وهما قد تحصلا مسبقا على أموالهما و أرادا أن يتخلصا مني ومن الركاب فحاول الأخير أن يغلق هاتفه . ولكن مالك السيارة قام بالتواصل معهما ولا أعلم كيف أقنعهما ، فإذا بالمسؤول عن تسليم المهاجرين بليبيا يتصل بي وعاد ليتفاوض معي من جديد ، ولكن حينها لم أتساهل معه ولن أسلم حمولتي من الركاب له بتلك السهولة دون أخد أموالي المستحقة منه . بعد مفاوضات عدة قمت بتقاضي أموالي كاملة ،و عدت بالركاب إلى مدينة القطرون ليتسلمهم مسؤولهم هناك .
أشار عمر” في كلامه إلى أنه ورفاقه كسائقين لا يقع على عاتقهم سوى نقل حمولة الركاب المهربة من وإلى مكان محدد ليتم تقاضي الأجر مقابل ذلك ، ويختلف ثمن نقل المهاجرين حسب جنسياتهم ، فنقل المهاجرين الأريتريين أغلى ثمناً من غيرهم ويصعب أن تحصل عليهم ، وهم في أغلب الأحيان يخرجون من السودان إلى حدود تشاد إلى ليبيا عن طريق المنافد الجنوبية الشرقية ” الكفرة ” ، و حتى عند تجار البشر يختلف ثمن البيع ،حيث يعتبر الهوسا و المالي وغيرهم أقل ثمنا ً بكثير من الأشخاص” الأريتريّي الجنسية”. التّهْريبٌ مُـغَامرة تَسْـتَْقطبٌ الشّـبَـابَ ! ختم عمر حكايته عن التهريب بقوله : ” هناك مئات الشباب يمتهنون التهريب ، سواء من ليبيا أو النيجر أو تشاد ، فهذا الأمر ليس مقتصراً على بلد بعينه ، وكما أن التهريب لم يعد يقتصر على نقل المهاجرين فحمولات التهريب تشمل الوقود والمخدرات وغيرها ، و رغم أن الجميع ينظر إلينا كأناس أشرار نقوم بتعذيب وتجويع المهاجرين إلا أن هذه ليست الحقيقة كاملة ، فنحن المهربون لسنا جميعا سواء ، و أنا عن نفسي لا أتعامل مع ركابي من البشر كسلعة أبدا ، بل أعاملهم أفضل معاملة و أحرص على أكلهم وشربهم ، لأنهم في النهاية بشر مثلي و إن أرغمتهم ظروفهم أو أحلامهم على الهجرة القاسية إلى ليبيا أو ما بعد البحر بهذه الطريقة ، وبالرغم من كل المخاطر المحدقة بنا طوال رحلات السفر إلا أن عمليات التهريب تتزايد ، ويستمر السائقون في نقل المهاجرين ، فالكلّ يبحث عن طريقة يكسب بها رزقه مهما كانت مشقة الأمر .
رُغْمَ سَـرَاب الرّمَـالِ وَ أَشْـبَاح الْعَـطَش وَ الْـمَوْت الّتِي تَحْرِسٌ حُدُود لِـيبْيـَا إلا أنّ أعْدادا كَـبِيرَة منَ الْـمُهَاجرينَ تَـقْصدُ لِـيبـْيا سَـنَوياً .. مهاجرون تختلف جنسياتهم و أحلامهم العابرة لحدود ليبيا التي يراها البعض أرضا خصبة لحياة أفضل ، أما البعض الآخر فيلِجها كَـمَعبرِ حلم إلى الدول الأوربية غير آبهين بما تواجههم من صعاب و مخاطر للوصول إلى ذلك الحلم عبر رحلة محفوفة بالمخاطر بطلها مهرّب ” سائق ” اعتاد قطع مسافات طويلة في الصحراء ليوصل حمولته البشرية إلى محطتهم المنشودة. وخلال السنوات الأخيرة تزايدت نسب المهاجرين إلى ليبيا بسبب الأوضاع الأمنية المتردية والحدود المباحة ، التي جسدت فرصة ذهبية لتجار و مهربي السلاح والمخدرات والوقود والسيارات ، بل و تجارة البشر من داخل ليبيا إلى خارجها أو العكس ، وساعدت على ازدهار أعمالهم خاصة في المنطقة الجنوبية باعتبارها منطقة مفتوحة الحدود على دول أفريقيا موطن المهاجرين أو محطات عبورهم .