- محمد مفتاح الزروق
النّوَارِسُ
– أعرف تماما هذا الطائر. يظهر على الشاطئ والكورنيش في نهايات أكتوبر. أراه دائما قبيل الغروب وبعد رؤيته يجتاح بدني ذلك الشعور بالقشعريرة.
قالتها وهي تهم بالوقوف لأجدها فرصة لأن أربِت على فخذها لتعود إلى الجلوس, محاولا أن أجعل الأمر يبدو عرضيا.
– إحساس مخادع, فالجو دافئ إلى حد كبير.
علت أصوات النوارس وهي تقترب وتبتعد. سألتني فجأة:
– ما صوت النوارس؟
– نعيق!
– ياه. مزعجة هذه الكلمة. يبدو لي أن صوتها أجمل من وصفه.
ظللت أراقب رجليها المتدليتين وهما تداعبان الرصيف في ركلات متواترة, وأنظر في الآيباد إلى خبر: دول أوروبا والولايات المتحدة تدعو رعاياها إلى مغادرة طرابلس. لماذا اليوم؟ أتساءل. بنغازي ودعت الحرب على أمل ألا تعود. هل الحرب تنتظر طرابلس أيضا؟
“النوارس تدهشني”, قالتها وتظاهرت بعدم سماع العبارة وأمعنت النظر في الآيباد ومشهد الغروب, فتابعت: “النوارس واللقالق والغرانيق والبط.. كلها تظل تسبح حتى ما بعد غروب الشمس. ما الذي يحدث لها بعد أن يحتوي الظلام المكان؟ أين تختفي؟ لا أظنها تظل تسبح طوال الليل..
لم أجب طبعا, رغم أني سمعت السؤال وصدمني ولم أفكر يوما فيه ولا في إجابته, أرسلت إلى ألفريد الصحفي الكندي الذي زار البلاد في إبان فبراير الدموية الباسمة وسألته:
– لماذا لا تأتي إلى بنغازي مجددا لتغطي أحداث مدينتي لصحيفتكم المشهورة؟
– ما الأمر؟! ما الجديد؟!
آه.. فعلا.. لا جديد.. لا شيء يستهويكم.. الحرب انتهت! وعاد الهدوء إلى المدينة. هذا الأمر لا يهمكم. هذا الأمر لا يستهوي القراء ولا يغري المحررين. أنتم تقتاتون على المصائب والحروب. سامحني يا ألفريد. أنت أيضا كاذب.
كانت الشمس قد ابتلعها ذلك الخط الوهمي الذي يسمونه الأفق تماما.
عصر هذا اليوم, قررت الترجل عن سيارتي ومتابعة المسير على الشاطئ عندما فوجئت بإيمان تسير بمحاذاتي وتلتفت إلى البحر. تلفتت ورفعت يدها وحركت أصابعها تحييني كعادتها في التحية. مشينا معا ثم جلسنا وسألتني إن كنت كتبت شيئا عن الكورنيش في فترة الحرب…
عادت ذاكرتي تتحسس كل ما قلته وكتبته وبدأت أترنم:
لهف قلبي
هل سأصحو
كي أجول ولي مزاج
في طريق البحر أمضي
أرشف الملح الأجاج
ورياح الشوق تعصف
بالمباني في ابتهاج
والسما تجهش فرحى
يبهج النقر الزجاج
وندى الكورنيش عطر
والبضائع في رواج
وصفير الفلك فيها
ليس في ذاك انزعاج
لهف قلبي دعني أمضي
إن في هذا العلاج
كم أتوق إلى مدينتي
إنها للرأس تاج…
– إحساسك تغير كثيرا, لكن صوتك لم يتغير..
أستاذة الموسيقا تباشر مهمتها في النقد. أعادت سؤالها: أين تهجع النوارس؟
قالتها وهي تضرب قدمي بحذائها في تدلل واضح:
– لا أعلم.. لكن سؤالك أحيا سؤالا آخر في مخيلتي: أين اختفت النوارس في فترة الحرب؟