- المهدي يوسف كاجيجي
على صفحات (ليبيا المستقبل) كتبت مقالة بعنوان ” الوطن الذي كان ملء الكف ” – قلت فيه: إنني انتمى إلى جيل محظوظ، جُمعَ له الوطن في كف. في الخمسينات تعرفت على زملائي في مدرسة سبها المركزية القادمين من كل أنحاء ولاية فزان، وفى القسم الداخلي في معهد معلمين طرابلس، أقمت لمدة ثلاث سنوات، برفقة اكثر من الف طالب، قدموا من مدن وقرى ونجوع ولاية طرابلس ، وفي غابة سواني بن يادم، اكتمل البدر، واجتمعنا البراقوة والفزازنة والطرابلسية، تحت خيمة كشاف ليبيا، لننشد معا: ( ذاك نور يتلألأ في سماء ليبيا *** ناشرا نشوة أنس في الصباح والمساء ) ، وخرجنا للحياة العملية، كل منا يملك ثروة من الحب والمودة والرجال ، ووطن رحب، اختزلت مفاتيح بيوته، في مفتاح واحد، كانت ليبيا وقتها مقسمة اداريا لثلاث ولايات، وفي القلب كانت بلدا واحدا.
منذ ذلك التاريخ تغير العالم من حولنا، ما كان مستحيلا أصبح ممكنا، قوميات وشعوب وأعراق متناحرة توحدت، وعالم جديد يولد، لًا مكان فيه للضعفاء. والسؤال: اين نحن من كل ذلك؟ – والجواب: بلد ممزق، يتجه بخطى سريعة نحو التقسيم، او بالأحرى نحو التفتيت، والأخطر من ذلك ما يجري في جنوبه من تغيير للتركيبة السكانية تمهيدا لاقتطاع أراضيه وضمها الى بعض دول الجوار.
وطن متعدد الرايات
لقد أدرك الآباء المؤسسون بحكمتهم واستشرافهم للمستقبل التصدي للتقسيم وبحصاد دمائهم سلموه لنا وطناً موحداً، وبأطماعنا، وبفساد نفوسنا، وبأيدينا لففنا الحبل على أعناقنا، وسلمنا طرفه للأجنبي ليقودنا نحو المجهول ، استدعينا كل ما لدينا من أحقاد قديمة ، ووظفناها في تمزيق النسيج المتداخل للثوب الوطني، وتحولنا إلى وطن ضائع فاقد الهوية، متعدد الرايات والحكومات والبرلمانات والوزارات والسفارات، توزعت ولاءاته خارجه ، وفقد أهله القدرة على اتخاذ القرار .
التفتيت هو القادم
بعد سقوط نظام سبتمبر، كان من ضمن الأفكار المطروحة، العودة للعمل بأول دستور، وبالفيدرالية كنظام، وقتها اتهم أصحاب هذا الراي بالانفصالية، اليوم نحن في حالة تقسيم فعلي، لا ينقصه سوى الاعتراف ورسم الحدود. الوطن الذي كان ملء الكف، تم تفكيكه وتوظيف صراعاته الجهوية والإقليمية والقبلية، من اجل مكاسب سياسية ومالية، وطن اختزل برحابته في قبيلة، ومنطقة وتحول الى جذر معزول متفرق. المتفائلون يعتقدون ان التقسيم القادم، سيكون في نطاق أقاليم ليبيا التقليدية الثلاثة، طرابلس ، وبرقة ،وفزان، ولكنهم حالمون، فالتركيبة السكانية الفريدة ظلت متماسكة، عبر كل الحقب بوحدتها، وهي مثل لوحة الفسيفساء، المساس بأصغر جزء منها، سيؤدي الى التفكك والانهيار الكامل ،التقسيم القادم لن يقبل القسمة على ثلاثة ، ولن يقف عند حدود الولاية ،او المدينة، او الحى ، او القرية، او العائلة، سيختفي الوطن برحابته، وسيتحول الى جزر مفككة لا رابط فيما بينها سوى الكراهية والبغضاء والحقد وتربص كل بالآخر .أفيقوا من غيبوبتكم وتأملوا جيدا ما يجري حولكم وارحمونا وارحموا انفسكم مما هو قادم. وادركوا قبل فوات الأوان إذ الدمار القادم لن يستثني احداً.