امتزاج المغرب بحضارة الأندلس :
نعرف أن الأندلس هي أسبانيا ، وكان هذا الاسم يطلق على أسبانيا والبرتغال ، ولكن الأندلس اليوم يطلق على الإقليم الجنوبي من أسبانيا ، أما المغرب فكان يطلق على المنطقة التي تشمل : تونس والجزائر والمملكة المغربية اليوم ، والمؤرخون القدامى كانوا يطلقون تعبير المغرب على الأندلس أيضًا حين يتحدثون عن أدب المشرق والمغرب ، فيقولون مثلاً : ابن هانئ الأندلسي متنبي المغرب ، وابن زيدون الأندلسي بحتري المغرب … وهكذا ..
أقول : من الواجب علينا ونحن نقرأ أو ندرس حضارة المغرب الأقصى إبان العصر الوسيط أن نؤكد على ما تدين به العشائر المغربية بوجه عام لحضارة الأندلس العربية الإسلامية ، والأصل فيها هو قيام الدولة التي أسسها عبد الرحمن بن معاوية الداخلي الأموي الملقب بصقر قريش ، الشاب الأموي الذي هرب بعد سقوط الدولة الأموية إلى الأندلس ، ودخلها ولذلك لقب بالداخل وأسس دولة بني أمية هناك التي لم تخضع للحكم العباسي وظلت نحو ثلاثة قرون .
عبد الرحمن الداخل أسس دولته في قرطبة الأندلسية مستوحيًا حضارة أسرته الأموية في الشرق العربي الإسلامي ، وإذا كان ملوك الطوائف قد انتهوا بالدولة الأموية الباهرة في الأندلس إلى التفكك والتمزق والفشل والتفسخ ، حيث حكم كل منهم إقليمًا وأدى اختلافهم إلى ضعفهم وضياع الأندلس كلها ، وكان آخرها غرناطة مملكة بني الأحمر .
الملك الذي ضاع :
لقد فتحت بلاد شمال إفريقيا : ليبيا ، وتونس ، والجزائر ، والمغرب من سنة 20هـ إلى سنة 90هـ ، وذلك لأن امرأة متسلطة لها سيطرة على قومها عوقت فتح المغرب عشرات السنين بالهجوم على البطل فاتح إفريقيا / عقبة بن نافع ومن معه من خيرة الرجال فاستشهد منهم مئات في تلمسان الجزائرية ، وارتد بعض المغاربة عن الإسلام إلى أن جاء البطل / موسى بن نصير فأعاد فتحها ، وقام القائد / طارق بن زياد معه بفتح الأندلس و القضاء على الملك / لذريق ، وكان ذلك سنة 91 هـ ، وظلت الأندلس نحو ثمانية قرون دولة إسلامية عربية راقية في العلوم والفنون والآداب ، حتى اختلف أهلها وتفرقوا واستعانوا بحكام قشتالة و غيرهم صد بعض ، وانتهى أمرهم بالفشل ، وكان آخرهم عبد الله بن الأحمر بغرناطة الذي بكى وهو يسلم المدينة ، فقالت له أمه :
ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
لقد تمكنت دولتا : المرابطين والموحدين من حكام مراكش إيقاف الزحف القشتالي الأرجوني إلى مدى من الزمان والمكان ، وعليه : تم إخصاب المغرب بحضارة الأندلسيين ، وأضحى الحكم الإسلامي ، قبل جلائه نهائيًا عن شبه الجزيرة الأندلسية كلاً لا يتجزأ ، يجمع بين الضفة (الشاطئ) الشمالية لبحر الزقاق (مضيق جبل طارق) ، وضفته الجنوبية أي بين عدوة الأندلس (شاطئ الوادي) وعدوة المغرب .
تنوع الفنون والآداب بين المشرق والمغرب :
ومع ما تدين به الدول الإسلامية في المغرب والأندلس لحضارة الشرق الإسلامي وهو المنبع والأصل ، فإن طبيعة الناس والأرض والسماء ، وما تم من المزج أو الاختلاط الوثيق بين المسلمين عربًا وبربرًا وموالي ، وبين الأسبان ، قد طبعت المغرب وأدبه بخصائص مميزة وشخصية فريدة وسط الفنون الإسلامية الجميلة ، وهي ظاهرة معروفة في تنوع الفنون الإسلامية ما بين أواسط أسيا وشمالي الهند وبلاد ما وراء النهر (بلاد الأفغان) وهضبة إيران ووادي دجلة والفرات وسوريا ومصر والمغرب والأندلس .
أمثلة من الحضارة الأندلسية المغربية :
وسنحاول أن نقف معًا أمام بعض الأمثلة من هذا التزاوج بين حضارة الأندلس وحضارة المغرب ، ونعني بهذه الأمثلة تلك التي توصف في تاريخ الفنون بالفن : الهسبانو/ موريسكي ، أي الفن الأندلسي المغربي إذا أردنا توخي الدقة التاريخية ، وذلك على امتداد تاريخ الدول التي نشأت بالمغرب الأقصى ، مع العلم بأن الفن المغربي قد واصل طريق أصالته وخصائصه حتى بعد انتهاء الحكم الإسلامي بالأندلس خاضعًا لسنة التطوير ارتفاعًا أو هبوطًا .
وأمثلتنا المختارة من بين أهم منشآت الفن الإسلامي ، وهي دور العبادة ، مساجد وجوامع وزوايا وما يتبعها من معاهد العلم والمدارس لإقامة الطلاب ، ثم عمارة التحصينات في أسوار المدن وأبوابها وما يعرف بالقصبة ونقصد بها : مجموعة القلعة ، والحصن ، والمسجد ، والقصر ، وعمارة الرباطات (المعسكرات) ، وأخيرًا المنشآت الخاصة والعامة من قصور الخلفاء والسلاطين والأمراء والبيوت والحمامات العامة والأسواق والقيساريات (الأسواق) … ولنترك جانبًا فنون الزخرف في الصناعات والحرف المختلفة فهذا أمر يحتاج إلى المزيد والمزيد من معرفته وتذوقه والكتابة عنه ..
تأثر الأندلسيين بموسيقى المشرق :
ويدين المغرب الإسلامي للمشارقة (بلاد الشرق) في فن الموسيقى حين خرج أبو الحسن علي بن نافع الذي نعرفه بزرياب ، عن بغداد عاصمة الخلافة العباسية قاصدًا قرطبة عاصمة الفن والثقافة في الأندلس منشقًا على أستاذه إسحاق الموصلي ، وقد تلقاه الخليفة الأموي / عبد الرحمن الثاني بالترحاب وإغداق العطايا عليه ، ولم يقف دور زرياب عند الموسيقى التي ازدهرت بفضله في بلاط (قصور) الأمويين بالأندلس فكان بمثابة مستشار للخليفة في شئون الفنون والأناقة .
مدرسة زرياب في الغناء :
اجتمعت لزرياب ملكات الشعر والتأليف الموسيقي والعلم متبعًا أثر أستاذه الفيلسوف / الكندي ، وزرياب هو الذي أضاف إلى آلة العود وترًا خامسًا ، وهو صاحب مدرسة في الغناء يعتبرها الأوربيون أساسًا لتدريب الصوت بتمرينات على الارتقاء بالأداء الصوتي (الفوكاليز) ، وهو واضع قالب التأليف الموسيقي الذي يبدأ بالنشيد في نوع من التلاوة المنغمة ، ويتبع بالحركات ويختتم بالأهازيج (الأغاني) .
اشبيلية مركز لصناعة الآلات الموسيقية
إلا أن الموسيقى في ممالك غرناطة وأشبيلية وبلنسية (كلها مدن أندلسية) قد تأثرت بالفن الأسباني ، وعبرت عن جو الرفاهية وهناءة العيش وسط طبيعة جميلة ساحرة خلابة ، وكانت أشبيلية مركزًا متميزًا لصناعات آلات العزف ، مثل : القانون والعود والرباب والسلامية والناي و البوق ، وما زلنا نحفظ منذ أيام تلقي العلم ما يقال في المقارنة بين أشبيلية وقرطبة : إذا مات عالم بأشبيلية حملت كتبه إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإن مات مطرب بقرطبة وأريد بيع آلاته حملت إلى أشبيلية .
عن الموشحات الأندلسية :
الموشحات كما نعرفها جمع موشحة ، وهي القصيدة المزخرفة تشبيهًا لها بالمرأة التي ترتدي الوشاح للزينة ، وهي قصائد متنوعة القوافي ، ولكن لكل مقطوعة منها نهاية موحدة تسمى (القفل) .
والأندلسيون هم مبدعو فن الموشحات الأندلسية ، وهو نوع من الشعر المصنوع خصيصًا للغناء المقطعي ، ولا ننسى الأزجال الممتعة المعبرة رغم خروجها عن قواعد الفصحى إلى العامية الأندلسية حيث تختلط فيها العربية بالأسبانية والبربرية (نسبة إلى البربر وهم سكان المغرب الأصليون) .
بين الموحدين وبني مرين :
كان الموحدون بناة معاقل وحصون وبيوت عبادة ، أما المريينيون (نسبة إلى مرين وهم ملوك غرناطة) فقد درجوا على الحياة في مظهرها الأندلسي : بيوتهم وقصورهم متعة للبصر ، وكذلك مساكن الناس والحمامات الشعبية أو العامة ، والوكالات (أسواق تجارة الجملة وكان بها أماكن لنوم التجار وراحتهم)، والمستشفيات ، وأسوار العيون والحصون ، أقيم كل ذلك بأيدي صناع مهرة في البناء والزخرفة قيل بأنهم كانوا يعملون على أنغام الموسيقى الغرناطية العذبة .
روعة الآثار الإسلامية في فاس ومكناس :
وسار من جاء بعد المرينيين على الطريق ، وإن مالوا إلى الإغراق في الزينة والبرقشة (الزخرفة) والنقش .
ومقابر المرينيين والسعديين والعلويين ومدافنهم نماذج جميلة للفن المغربي الأندلسي ، وكذلك الأسوار والبوابات والقصبات تجذب الزائر بألوانها الخضراء الجميلة ، وما أروعه مشهدًا إذا وقف المسافر على مبعدة من فاس أو مكناسة (مكناس) ـ التي هي من مدن المغرب ـ ليتأمل هذه الجواهر تحميها الأسوار العتيقة والأبراج العالية وسط الهضاب ، وترتفع في سمائها المآذن المربعة وليس المدورة والتي يطلق عليها الصوامع مما لم يتعود أهل الشرق الإسلامي على رؤيته في مآذن مساجدهم ولا في بوابات أسوارهم إلا فيما ندر .
بقلم
د .يسري عبد الغني عبد الله
باحث وخبير في التراث الثقافي
yusri_52 @yahoo.com