كتبه :: حسن المغربي
مضى وقت طويل وأنا أبحث عن الكلمات من غير أن أثبت شيئاً ، لقد كنت شغوفا بالأدب والموسيقا وشرب القهوة طول النهار على طريقة العقاد ، كما كنت أحب التدخين ، وأحترم من ينظر إليه على أنه فعل إنساني ، مثل أي شيء يحدث في الحياة بغض النظر عما فيه من جمال أو قبح . يجب أن نكون أوفياء لأنفسنا ، مادامت لنا حاجات نبتغيها ، وأماني نسعى إلى تحقيقها ، أستغرب من أولئك الذين يسلكون طريق الطامحين إلى المجد ، مع أننا حين نحيا ، لا شيء يمكن أن يحدث في الوجود كما يقول سارتر ، كل ما في الأمر هو أننا مثل جميع الكائنات ، مجرد أشياء ، ومصيرنا المحقق هو الموت إن المجهول الذي نشعر بملاحقته هو الروح ذاتها التي تسيطر على شعورنا ، وتحلق في أحلامنا كما لو أنها شخص نعرفه جيدا ، ولا نستطيع أن ندرك كنهه ، الكينونة ليست كل ما هو موجود كما هو مشاع ، الكينونة نمط من التفكير ، هاجس ، فراغ يتشكل في الذهن ، صورة مشوهة للواقع مثل لوحة وحشية لهنري روسو .
كيف يمكن تجاوز الأفكار المألوفة والتفكير المعتاد ، كيف نجعل من اليومي والمتوقع أشياء غير ذات أهمية مثل الخردة والمواد التالفة ، يجب أن نعيد النظر في المفاهيم القديمة ، في المقاييس الثابتة ، في كل مصدر نرجع إليه في الإثباتات المحسوسة والمسموعة والمسكوت عنها ، إن الإلهام بالنسبة لنا شيء ضروري مثل الخربشة الأولى في نص أدبي أو لوحة رائعة ، وكذلك الخيال ، فإنه من الأشياء الممتعة في حياتنا ، وهو أساس الفن والأدب والعلم ، بل هو أهم من كل ذلك ، فهو رؤية مسبقة لمستقبل الحياة بحسب تعبير ( أينشتاين ) ، فالأفكار الخيالية الموجودة في أحاديث العجائز والأطفال وكلام الحمقى ، هي أفكار غير عادية ، ساحرة ، خلاقة ، مثل نقش جميل مجهول الهوية ، أليس غريبا أن يكون الخيال أكثر تعبيرا من الواقع ؟.
إن هذيان المجنون أو المريض النفسي بحسب تعبير علم النفس ، ليس كله هراء مثلما يُوحى لنا ، أو كما يصوره لنا العقل ، إن كلام الحمقى كشف لما وراء الأفعال النبيلة والقبيحة معا ، ماذا نفهم من شخص مجنون يتحدث مع حائط قديم ؛يقول : اخرجوا أيتها الشياطين ، أنا أراكم جيداً .. اخرجوا لهذا العالم ! الشيء الغريب في هذا الكلام هو أننا نؤمن بأن هناك عالمين منفصلين ، عالم مادي ، وعالم روحي ، لكن الصفة التي نطلقها على هذا الشخص – وهي تريحنا كثيرا – هو أنه ( مجنون ) ، حتى القصص والروايات الخيالية و أفلام السينما لا تشذ عن هذه القاعدة ، مع أننا ما أن نقف في مكان ما ، ونحدّث أنفسنا ، نشعر بأن هناك من يسمع لحديثنا ، وهذا بالطبع لا يحتاج إلى دليل أو تجربة ، فالإنسان الذي يتخلى عن المحسوس ، ستصاب روحه بالجنون .
لقد صنف ( ديكارت ) الجنون إلى جانب الحلم ، وهو على علم بأن الحواس رغم أنها مضللة ، لا يمكن أن تنكر ” أن الأشياء تتمتع بقليل من الحساسية وبعيدة المنال أيضا ” ، كما أن الاعتقاد بالشيء ، أيا كان ، لا يتطلب في الحقيقة سوى الإقرار بالفكرة حتى لو كانت تافهة ، وهذا مبدأ ملزم لكل من يرى بأن الإحساس بالشيء سواء أكان مجهولاً أم معلوماً مثل الإيمان بجمال الحياة بما فيها من ثقل وتناقض ، أما العلاقة الجدلية بين الأشياء هي أفضل دليل على صدق الحواس ، فلولا الألم لما عرفنا الضحك ، ولولا الجنون لما فهمنا ماذا يعنى العقل ، نعم ؛ إن عقل الإنسان في علاقته بالحكمة ليس سوى جنون كما يقول ( فوكو ) ، ومن صميم سلوكنا اليومي يتضح هذا ، فحينما يُحتكم إلى العقل في موقف ما ، نشعر بأننا حمقى لدرجة أنه سيكون المرء مجنوناً إذا لم يعترف بهذا الجنون ، فالعقل في حقيقته هو صنو الجنون ، وبتعبير أحد الفلاسفة :” إن العقل والجنون متجاوران ، فليس بين هذا وذاك سوى خطوة . وهذا ما يتضح من سلوك الحمقى “.