لمحاتُ سيرةٍ غابرةٍ لشاعرٍ جميل

لمحاتُ سيرةٍ غابرةٍ لشاعرٍ جميل

بقلم :: يونس شعبان الفنادي

 تتراكم التجربة الإبداعية عند الأديب والشاعر الفلسطيني جميل حمادة من خلال مشوار مكلل بالعطاء عبر محطات عديدة حددها في لقاء صحفي أجري معه فقال (…. المحطةُ الأولى كانت محطةَ الجوع، والثانية محطة الهزيمة، أما الثالثة فهي محطةُ الانتقال من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة واكتشاف ثورة الشعر الحر، وجماليات شعر المقاومة الفلسطينية واللبنانية عن طريق الراحل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفدوى طوقان..وشيئاً فشيئاً وجدتُ نفسي أنتقلُ إلى قصيدة التفعيلة محافظاً على الإيقاع في القصيدة، وغيرَ قادرٍ على الانفلات المطلق من أوزان القصيدة العمودية. أما المحطةُ الرابعة فكانت ليبيا حيث تخرجتُ وجئتُ للعمل في ليبيا عام 1975، وبدأت أتعاطى حينها كل أشكال الكتابة الشعرية..). أما محطاته وسيرته الذاتية كما صاغها شعريا ونشرها في قصيدته الجميلة (سيرةٌ ذاتيةٌ لزمنٍ غابرٍ) التي ضمها ديوانه (أسئلةُ الهذيان) فيقول فيها:

(… كانت الأيامُ صديقتي

والزمانُ أخي

نمشي معاً على الشاطيء

نقرأُ آيةَ الصِبَا

ونكتبُ شِعرَ الطفولة

لقبيلةٍ من الأطفالِ الناصعين

نُشاكسُ النِساءَ الصغيرات

ونُغني معاً لفيروز “وقف يا أسمر” …)

بهذه العفوية والصراحة تراقصت مقدمة نص الشاعر جميل حمادة بعبق كلماته البسيطة المفعمة برهافة الروح الإنسانية الدافقة بالمحبة والزاخرة بالأحلام العذبة وخزائن البهجة وزفرات المرارة الحزينة في آن واحد. يوثق النص بعضاً من سيرة ذاتية للشاعر اكتست لوناً واضحاً، ولحناً شجياً لمعزوفة موسيقية، تنساب نغماتها بكل حرارة ودفء، فتهاطلت ضاجةً بالتآلف مع الروتين اليومي وانكسارات زمن المعاناة المسكون في صرخات الآلم الصامت، المستوطن بأعماقه الندية الشفافة، حيث برز الحنين للأهل والطفولة وعشق المرح وبعض الشقاوة والتغني بروائع الفنانة العربية الكبيرة فيروز أهم ملامح هذا الاستهلال لسيرة زمن غابر لشاعر … جميل.

لا أحبُّ الشعر إلا هكذا، يركض حالماً ويغوص في التفاصيل اللذيذة كأنه خبزٌ يومي، ونداءٌ يستنطق الأحداث والذكريات بمفردات لا ترتدي إلا وضوحها الصادق وجماليات معانيها المحددة. في هذا النص يستعرض الشاعر الفلسطيني جميل حمادة روزنامته اليومية على مدار الأسبوع فيصف نشاطاته التي لا تخلو من براءة الطفولة ومكابدات المعيشة وبعض الشقاوة اللذيذة، التي جاءت يومية متتابعة على النحو التالي:

(السبت: أذهبُ إلى المكتبةِ البعيدة

أقراءُ “ميكي ماوس” و”سمير” و”الوطواط”

و”كنزَ الشمردل” و”ألفَ ليلةٍ وليلة”.)

يوم السبت يرسمه يوماً ثقافياً مبكراً منذ بدايات الطفولة حيث المواظبة على قراءة مجلات “ميكي” و”سمير” و”الوطواط” المصرية الأسبوعية وما تقدمه من زاد ومعرفة شاملة ومتنوعة، تتناسب مع فكر واهتمامات تلك المرحلة. ثم تتصاعد الاهتمامات وترتقي قليلاً ليغترف الشاعر جرعة معلوماتية أعمق وأكبر تعكس مرحلة الصبا أو تتجاوزها من خلال مطالعة مطبوعات أكثر غزارة وغنى بالمعرفة الأدبية مثل قصة “كنز الشمردل” البطولية وحكايات “ألف ليلة وليلة” التراثية. هذا السبت يوضح لنا أن رصيد الشاعر المعرفي والثقافي قد بدأ يتأسس مبكراً منذ الصغر وهو ما يوفر له ذخيرة وأرضية ستنعكس لاحقاً على عالمه الإبداعي الأدبي والشعري.

(الأحد: أذهبُ إلى الكنيسةِ أتفرجُ على

الأرثوذكسِ وهم يغادرونَ صلواتِهم

نحو الحاناتِ القريبةِ.

كلٌّ يتأبطُ إمرأة ويشتري مكسراتٍ

مقويةٍ للنظرِ ولأشياءَ أخرى!.)

 من خلال هذه الشهادة الشعرية يقدم لنا الشاعر الفلسطيني المسلم جميل حمادة إقراراً ضمنياً على تسامح فكره الديني منذ صغره، ويؤكد بأن للمسيحية وطقوسها وشخوصها حضور يومي في برنامج حياته الأسبوعي. وهو حتى وإن سجل طقوس الأورثوذوكسيين في يوم الأحد التي تبدو غريبة أو حتى متناقضة للبعض فيما يتعلق بالصلاة وشرب الخمر، فلقد ترك الباب مفتوحاً لتأويل جملته (.. ولأشياء أخرى!) التي يمكن تفسيرها وفق ثقافات مختلفة توجه المتلقي صوب دروب مفاهيم عديدة.

(الإثنين: أذهبُ إلى بحرٍ يغصُ “بالمايوهات”

لأبيعَ الترمسَ والأسكيمو والأسماكَ

الوليدةَ في التوِّ والحركات.)

 في يوم الإثنين يتكشفُ أمامنا فضاءٌ آخرٌ في نصِّ الشاعر هنا وهو البحرُ، الذي لا نجدُ أمواجَه أو نسائمَه أو زرقتَه أو رمَالَه، بل تمثل فقط في اكتظاظه بألأجساد الأنثوية التي تسبح في مياهه أو تستلقي على رمال شاطئه، ألمحت إليها كلمة “المايوهات” بكل صراحة لما تحمله من تصوير جسدي وإغراء جنسي للأنثى وهي ترتدي ملابس البحر شبه العارية، وإجمالاً ما تشكله الأنثى من محرك إلهام شعري للكثير من المبدعين. كما يكشف النص عن أعمال بسيطة امتهنها الشاعر في طفولته للارتزاق وتوفير مصاريف معيشته منها “بيع الترمس” و”بيع الأسكيمو” و”بيع الأسماك” وهذا يؤكد طبيعة الحياة المضنية المكابدة التي عاشها في مراحل عمره المبكرة، وهو لا يتنصل من ذاك الماضي أو يخجل من الإشارة إلى تلك الأعمال أو تضمينها سيرة نصه الشعري الجميل، وهذا يبرز جانباً مهماً من فكره النير ومشاعره الشفافة الصادقة.

(الثلاثاء: أبيعُ الذرةَ المشويةَ أيضاً

أبيعُ الحكاياتِ أحياناً…)

 يواصل الشاعر التصريح بمهن البيع المادية التي مارسها أيام الثلاثاء ومن بينها بيع قطع الذرة المشوية، ثم أضاف إلى تلك الأعمال مهنة مختلفة جعلها بلا توصيف معين وهي (بيع الحكايات) حيث لم يفصح عن تفاصيل هذه المهنة ولا نوع الحكايات التي كان يبيعها ولا زبائنه ولا طقوسها المختلفة بكل تأكيد عن مهنه المادية السابقة.

(الأربعاء: أجمعُ الملابسَ للعراةِ

ظهراً نتابعُ البدوياتِ الفاتناتِ..)

 ويعلن الشاعر في يوم الأربعاء عن أعمال أخرى امتهنها تتمثل في جمع الملابس للمصطافين العراة، ويؤكد استمرارية انجذابه نحو الأنثى من خلال متابعة ومعاكسة الفتيات البدويات الحسناوات اللائي لم يحدد مكانهن هل عند تواجدهن بالقرب من البحر أم في مكان آخر؟ وفي كل الأحوال فإن الشاعر ظل عفوياً وأميناً في سرده لسيرة زمنه الغابر ولم يتستر عن بعض الممارسات التي كان يستلذ بها في حينها عندما كان للعمر وجه أبهى وأجمل، وشعر لا يزينه بعضُ الشيب … وكثيرٌ من الوقار.

(الخميس: البحرُ .. صباحاً جداً

نسرقُ الأسماكَ من بحارةٍ طيبين

سيدخلونَ الجنةَ حتماً..)

 يأتي برنامج يوم الخميس في هذا المقطع ليعزز ما أشرتُ إليه أعلاه. فليس من الشائع أن نجد إنساناً يعترف بأنه مارس السرقة في طفولته أو مرحلة من حياته، أو غيرها من الأفعال المشينة والأعمال المخلة بالآداب، ولكن الشاعر هنا يؤكد ما ذكرته بأنه لا يتجاوز ماضيه الطفولي بكل صوره، حتى وإن ظلت منافية للسلوكيات الحسنة. ولعل إشارته وتأكيده بأن البحارة الطيبين الذين تعرضوا لسرقاته الطفولية سيدخلون الجنة يحمل نوعاً من التأنيب الذاتي والعقاب الرباني له بإدخالهم الجنة نتيجة سرقاته وبالتالي تعويضهم عنها بالجنة.

(الجمعة: البريةُ/ باكراً جداً

حيثُ لم يعد الآنَ ممكناً/

أصطادُ العصافيرَ

وكإرهابي متمترسٍ في السلطةِ

أعودُ كفارسٍ منتصرٍ لأمي

معباً بالفرائس

متشققِ القدمين بشوكٍ

نحيلٍ يدخلُ خِلسةً ولا يغادر.)

في هذا اليوم لا نلمح عند الشاعر أية طقوس إسلامية لشعائر يوم الجمعة عيد المسلمين، بل ظل شاعرنا صادقاً في توثيق ذكريات سيرته ووفياً لممارساته التي يعترف ضمنياَ بأنها تغيرت حالياً ربما ليس لعدم توفر النية والرغبة في استمرارها وتكرارها بنفس النسق والهدف، ولكن بسبب تقدم العمر وعدم وجود القدرة والاستطاعة المادية على فعل نفس الأشياء، وتبدل الأفكار والمفاهيم والمقاصد والغايات (حيث لم يعد الآن ممكناً).

وتشكل البراري عند الشاعر مرتعاً خصباً لتمضية أوقات صباح الجمعة في مطاردة الطيور والعصافير والزرازير. هذه المطاردة تبعث في الإنسان الكثير من الفطنة والذكاء وقوة التركيز والانتظار بكل صبر وسكينة من أجل النيل من تلك العصافير الجميلة واصطيادها سواء بالمقاليع أو المناديف. كما أن البراري فضاء يحمل آفاقاً بعيدة المدى وتعدداً خضرياً من النباتات والأشجار وكذلك الفراشات والحشرات والحيوانات والطيور بكل ما تبعثه من تنوع لوني وبصري وصوتي يزود الشاعر بالكثير من الصور الحسية والمادية الرقيقة التي تتجمع في ذهنه فتنعكس في إبداعاته بشتى الأشكال والأجناس الأدبية.

وإن كان الشاعر لا يخلع استمتاعه بتلك الأوقات، إلا أنه يعترف بشكل غير مباشر بأن تلك المطاردة للطيور وقتل ومصادرة حريتها باصطيادها هو عمل إرهابي شنيع يتنافى مع فكره المستنير وقيمه السمحاء وعقيدته الإنسانية المنحازة للحرية على الدوام، وقد شبّه نفسه بالإرهابي ثم ربط الارهاب بالسلطة لأنها تسعى للهيمنة والتشبت بكل الأفعال والوسائل اللازمة لذلك حتى وإن تعارضت مع قيم الحرية الخالدة ومارست الإرهاب بكل صوره الشنيعة (وكإرهابي متمترسٍ في السلطةِ)، ولكن صورة الشاعر الإرهابي لا تستمر طويلاً فهو سرعان ما يلبس نفسه شخصية الفارس المقدام الذي لا يعود إلا منتصراً ومحملاً بالغنائم الجميلة، رغم ما سببت له معركة مطارة الطيور من بعض الخدوش والأضرار التي شققت قدميه، وغرست في جلده أسنان الأشواك المؤلمة فاستوطنت جسده.

وبالعودة إلى لقاء الشاعر وحديثه عن محطات حياته المهمة، يبدو هنا أن كل هذه السيرة الأسبوعية كانت تعبر عن مرحلة المحطة الأولى في حياة الشاعر الفلسطيني جميل حمادة التي أطلق عليها محطة الجوع بكل صورها، بداية من الجوع إلى المعرفة والجوع إلى اللهو والمتعة والجوع البيولوجي، وهو كان متوازناً جداً في تسجيل أيامها وذكرياتها بكل ما تحمله من مرارة ومعاناة وتصرفات طفولية وصبيانية صادقة تنشد الاستمتاع البريء وسراب المرح والمسرة. ولكنه في خاتمة هذا النص يفصح عن تعجبه من هذه السيرة الغابرة ويطلق حيرته باندهاش وأسئلة الشعراء حول أيامه الصديقة الفارعة التي تصرمت ومضت سريعاً كأنها ومضة خاطفة أو رؤية منامية أو حلم عابر سريع تلاشى. وليس هذا فحسب بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين شكك في علاقته بها وبأحداثها، وارتباطها به، مستغرباً سرعة أيام الزمن البهي المضي وهي تطوي سنوات العمر وترحل بها إلى عوالم مجهولة، كما ألمح الشاعر في نهاية نصه حين فجّر زفرات قلقه العميق الموجع من خلال سؤاله (أين يمضي الزمان القمر؟) في إشارة واضحة إلى حيرته وعجزه عن معرفة المصير والخاتمة لكل تلك السيرة الغابرة :

(.. كانت الأيامُ صديقتي الفارعة

التي مضت وكأنَّها حلمٌ عبرْ

أو ذاكرةُ لشخصٍ غيري أنا

كان هنا ثم مرْ

كأنَّه ليس أنا

هذا الذي كان هنا

أراه .. كيف يمضي الزمان القمرْ

كانت الأيامُ صديقتي

والزمانُ أخي والسنواتُ الآخرْ

أواه .. أين يمضى الزمانُ القمرْ؟)

كلماتٌ بسيطةٌ وعميقة بعمقِ الروحِ الإنسانيةِ تتراقصُ بانسيابٍ موسيقي آخاذ، توثقُ بعضَ تفاصيلِ سيرة الشاعر الفلسطيني جميل حمادة وزمنه الغابر فانحازت إلى أبجدية الحياة الإنسانية وجاءت ضاجة بالتآلف مع زمن المعاناة والانكسار، ومعبرة عن صرخات الألم الصامت الساكنة بأعماقه الندية الشفافةـ إضافة إلى تشبتها بتفاصيل اليومي الاعتيادي والطبيعي التي يمارسها أو يحلم بها الإنسان الفلسطيني القابع خلف أسوار الاحتلال، والمتعايش مع الموت والقتل والإرهاب والتنكيل. لا شك أن أبرز خصائص ديوان الشعر الفلسطيني المعاصر وعبر كل مراحله تتمثل في بلورة أسس الهوية وقضية الكفاح والنضال من أجل تحرير الأرض المحتلة، وتأطير تلك المباديء ككيان ثابت ومحرك دائم لكل أجناس الإبداع الأدبي والفني والشعري الفلسطيني وذلك للتأكيد على الانتماء والتشبت بالأرض الفلسطينية المحتلة ومقاومة الإحتلال والعمل على تحريرها. وهذا النص لا يذهب بعيداً عن تلك الأسس والمباديء الوطنية العظيمة لأنه نص يؤكد بالأساس إنتماء الفلسطيني أولاً إلى الحياة الإنسانية بكل صور سياقاتها المتسمة بالفرح والحزن والاستمتاع واللهو والتشرد والضياع، والتي من بينها اقتناص بعض اللحظات الخاطفة، مثلما فعل الشاعر في هذا النص، للبوح بسيرة الزمن وتسجيلها وتوثيقها وزرع أحلام ملونة بالبهجة والمرح في وطن الشعر. إن جميل حمادة في هذه القصيدة يرسم بكل عفوية صورته الإنسانية المجردة ليس بعيداً عن البندقية وغصن الزيتون والميجانا وقوافل الشهداء، لأن تلك الصور كلها مخزنة وساكنة في أعماقه ووجدانه كما يهتف بها صوته كنشيد يومي مقدس، ولكنها هنا في قصيدته (سيرة ذاتية لزمن غابر) تتوارى خلف ذاك الزمن الغابر الذي سطره لنا فيها، فأضاف إلى المشهد الشعري الفلسطيني جانباً آخر من جوانبه، وصورة لحياة لم نراها من قبل في نصوصه، فشكل بها لوحة جميلة تثري بكل دلالاتها ومعانيها الفكر والوجدان الإنساني وتضيف الكثير من البهجة للذائقة الشعرية.

(*)  أديب وكاتب وإعلامي مستقل من ليبيا

سبق نشر المقال لاول مرة في صحيفة فسانيا الورقية العدد 206

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :