- الناقدة السورية : د عبير خالد يحي
دراسة نقدية تحليلية بالآلية الذرائعية /الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي / الجزء الثالث
تحليل الشخصيات ضمن الحبكة والتشابك السردي والزمكانية
استخدمت الكاتبة الطريقة التحليلية في عرض الشخصيات، عندما اعتنت برسمها من الخارج، وشرحت عواطفها وأحاسيسها بأسلوب صريح كاشفة شخصيتها هي، وتوجيهها للشخصيات وأفكارها وفق حاجتها و هدفها الذي وضعته نصب أعينها وهي تعدّ هذا العمل، كما استخدمت الطريقة التمثيلية – بحدود دنيا – في عرض عائشة، عندما جعلتها تتكلم عن نفسها وعن بانسيه بضمير المتكلم:
-“خمس وخمسون عامًا عجافًا رغم أني لم أحظ بالدلال كما ينبغي، فبوجود بانسيه فقدتُ كلَّ اهتمام العائلة، خاصة أنها كانت جميلة متميّزة بذهبية شعرها وعينيها الخضراوين، وبياضها الشاهق و وجنتيها الحمراوين, أما أنا السمراء بينهم مجعدة الشعر متعثرة في دراستي دومًا لم يلتفت إليَّ أحد.”
الشخصية المحورية بانسيه:
الشخصية الوحيدة المخوّلة بالتحرّك بحرية على صفحات الرواية, تركت لها الكاتبة السطوة على كل الشخصيات الأخرى, لا نراها إلا بالقدر الذي تريدنا هي أن نراه فيها, السؤال هو إلى أي حد أجادت الكاتبة في انتقائها للشخصية التي قدّمتها لحمل الفكرة التي أرادت الكاتبة إيصالها ؟ إجابتي هي : إلى الحد الذي تسطو بها هذه الشخصية على الكاتبة ذاتها…! فهي لم تسمح للكاتبة بالابتعاد عنها, كما أن الكاتبة في كل مشاهد التشابك السردي الذي ألقت بها في صراعه, كانت معها في كل المواجهات الاجتماعية والسلوكية والنفسية…
أبعاد الشخصية:
البعد الجسدي: بيضاء البشرة بشعر أشقر وعينين خضراوين, و وجنتين حمراوين, نحيلة ممشوقة القوام.
البعد الاجتماعي: ابنة جميلة هي واسطة العقد لعائلة ميسورة الحال كانت تعيش بالكويت, والدها ( خير الله الشاهد) – والذي كان له من اسمه نصيب- كان أستاذًا في الجامعة, تكنّ له بانسيه الكثير من الحب والاحترام وتراه مثالًا للأب المكافح الذي خسّرته حرب كل ما جناه في غربته, ولم يمنحه الموت الفرصة لاستعادته من جديد, كان موت أمها من بعده قصمة ظهر أليمة.
أكملت تعليمها باذلة كل ما تملك للحصول على الدكتوراة في الهندسة البيئية في لندن ومن هناك عرفت نبيل الذي أصبح زوجها وأسكنها في فيللا تشبه القصر.
البعد السلوكي : شخصية حالمة تفيض رومانسيًّة, يجذبها الجمال في كل المواضع, يلهيها تأمّل تفاصيل بيت أثري عن الدنيا وكل جلبتها, لها من اسمها نصيب كبير, فهي حكيمة لها فلسفتها الخاصة بالحياة والموت, عندما كان معنى بانسيه = التفكير, وهي الحالمة المهمشة المنسية التي تحاول أن تلفت وجه آدمها إليها عندما كان بانسيه = تذكرني.
شخصية هادئة بمظهرها الخارجي, ثائرة من الداخل, يذبحها الشعور بالغدر والخيانة والخذلان, لا تجيد مواجهة الغير إلا بقدر من السلبية التي تدخلها في دائرة الظلم والتعدّي, ربما كانت تقوّم العالم المحيط بها بلسانها, أضعف الإيمان, لكنها في الغالب كانت تغادر منكمشة على نفسها في غيبوبات مؤثِرةً الخلاص.
البعد النفسي: تتناول المهدئات لضمان استمراريتها ككائن ضعيف في محيط يعيش به الكثير من المرضى الذين يعانون من الأمراض النفسية الطبائعية, يختل توازنها أحيانًا فيغلب ألمها صبرها فتحاول الانتحار.
الشخصيات المساعدة:
ياسمين:
فنانة تشكيلية تعرفت عليها بانسيه في أحد المعارض, ربطت بينهما صداقة قوية, كانت فيها ياسمين الصدر الوسع الذي تضع فيه بانسيه كل مكنونات نفسها, باستيعاب قلّ مثيله, أحادي القطب, أي أن ياسمين لم تكن مضطرة لمبادلة الأدوار, ربما لرغبة منها أو لعدم استعداد من قبل بانسيه, وهذا الأرجح, لم تألُ جهدًا بتوجيه النصيحة لبانسيه وتشجيعها دائمًا على الخروج من وضع المفعول به إلى وضع الفاعل, شجعتها على الخروج من أوجاعها, وعلى مراجعة الطبيب وإجراء الجراحة النسائية.
سامي:
الزوج الثاني والحبيب الذي غيّر حياة بانسيه العاطفية والواقعية, وجعلها سعيدة متشبثة بالحياة, وحققت معه حلم الحمل, بعد أن شجعها على خوض التجربة طالما هي رغبتها.
الطبيب ثائر عمار:
الطبيب النفسي الذي راجعته, واقنعها أنها ليست مريضة, وإنما هي متعبة من المرضى الذين يحيطون بها, ونصحها بالسفر للنقاهة ومحاولة تغيير نمط حياتها وتعاملاتها مع الميطين, والنظر للحياة من نافذة جديدة.
الشخصيات المعارضة:
عائشة:
أخت بانسيه الكبرى, تقدّمها الكاتبة على أنها:” فرد حقود, غلب حقدها طيبة عائلة بانسيه بكل المقاييس, لم تخلع ثوب حقدها أبدًا, بل على العكس أكملته بلبس رداء الحب المقنّع استعدادًا منها لمرحلة جديدة تستطيع فيها السيطرة على بانسيه, فهي الآن مصدر الدخل الوحيد لها”.
جذبتني هذه الشخصية من طرف خفي, لأنها الشخصية الوحيدة -سوى البطلة- التي سمحت لها الكاتبة بتقديم نفسها مباشرة وليس عبر بانسيه, فهي أيضًا لها من اسمها نصيب, فرد يحب الحياة والعيش فيها برغم كل الظروف, قاعدتها المثلى ( الغاية تبرّر الوسيلة) ولا شيء يقف أمام غاياتها, ولا ينبغي… وهي متصالحة مع نفسها, وتعرف ذاتها جيّدًا, ولا تخجل طالما أن لديها ذاتًا وصلت إلى مرحلة ” جنون الأنانية” Egomania والتي تتجاوز معنى “الأنانية” بتعريفه: (عجز الفرد عن النظر إلى العالم إلا من خلال مصالحه ومنافعه الخاصة أو الشخصية), فهو يشمل هذا المعنى مضافًا إليه (التشدّد والغلو في التزام المصلحة الذاتية). وبناء على هذا تعتبر تصرفات هذه الشخصية طبيعية في عرف معتقداتها, لا تحاسب نفسها أبدًا, بل تعتبر طريقتها بالعيش هي الطريقة المثلى, بل وتتّهم بانسيه بالأنانية فتنطبق عليها مقولة ( رمتني بدائها وانسلّت) كما تنصحها بالتسامح وتقدير ظروف الغير مبررة فعلها بأخذ المال, دون أن تأتِ على ذكر فعلها القبيح بحق أمها يوم رمتها بمأوى العجزة.
_ ” حاولي أن تتسامحي وتقدّري ظروف الغير وتتلمّسي الأعذار, فأنا لم أسافر عبثًا , كنت بحاجة إلى البحث عن ذاتي …..” ص 26
كان من الطبيعي أن تدخل بانسيه معها بصراع مستمر لا ينتهي, لكنه بالنهاية لا يخرجهما من رابطة الدم التي تجمعهما راضين أم كارهين, فهما متفقتان ضمنيًّا على هذه النقطة, يمكن أن ندرج هذا التشابك ضمن مفهوم ( صراع الأخوة – صراع الطباع). فعائشة تعيش مع بانسيه في الفيلا, وتعتني بها صحيًّا, وترافقها برحلة نقاهة, وبانسيه تتقبّلها كعلاقة حتميّة لا مفرّ منها.
نبيل:
زوج بانسيه, المحامي المشهور, له مركز مرموق في منظمة حقوق الإنسان, يرفع الشعارات البراقة, لكنه لا يتورّع عن انتهاكها بسلوكياته مع بانسيه, عندما يضربها ضربًا مؤذيًا, مؤديًا إلى مقاربة الموت, والإسعاف السريع إلى المشفى, ولا أظن أن الكاتبة اختارت له هذا الاسم عفويًّا, وإنما مقصود فهو نبيل بطبعه, لم يقصّر مع بانسيه بل كان كريمًا معها, لكن عندما تحطّم حلمه بالأبوة منها, لم يطلقها و لم يتزوج عليها رغم أن الشرع و العرف يتيح له ذلك, دون لوم من أحد, أحبها فعلًا, لكن بطريقته التملّكية, شغل نفسه عنها بنزوات عابرة مستقاة من زبونات مكتبه, هي لم تؤكّد أنه خانها حقيقة لكنها وضعته في دائرة الشكوك والظنون, و عاشت في في هاجس انتظار الخيانة الكبرى.
أهملها عامدًا محاولًا إثارة غيرتها, و هذا تصرف متوقع من رجل شرقي تقليدي, له مزاجه ومفهومه المعروف عن المرأة, هذه النوعية التي تطفو منغرساتها التوريثية الفكرية على سطح انفعالاتها السلوكية, ضاربةً عرض الحائط بكل المكتسبات الثقافية والحضارية التي حصلت عليها خلال مسيرتها الحياتية والتعليمية, وهذا الحال غالب على الطبقة المثقفة في مجتمعاتنا الشرقية, يقولون ما لا يفعلون, نوع من أنواع النفاق الثقافي والسياسي والمجتمعي, نوع من العنف السلطوي الذي لا يتورّع عن استخدامه من أعطي سوطًا ليتسلى به. وهو نموذج موجود من فئة ( سي السيد). وكان من الطبيعي أن يقوم التشابك والصراع بين نبيل و بانسيه, بين الجلف والرقة, بين المادية والرومانسية, بين الحكمة والسطحية, بين الغرور و المنطق, بين النقاء والنفاق,….
كل ذلك تلخّصه فقرة في رسالة الكترونية أرسلتها بانسيه ل نبيل:
” الحب لديك عزيزي ممارسات بكل ألوان الطيف, ينتظرك خلف غيمة وحيدة, كلّما رضيت عنك سماء الأنانية و أمطار الغرور, تهيم على بساط فكرة منحتك يومًا وثيقة الحرية بمفهوم أحمق”.
الشخصيات البسيطة:
هي الشخصيات التي تولد مكتملة على الورق لا تغير طباعها أو ملامحها الأحداث. ولا تزيد أو تنقص من مكوناتها الشخصية, يمكننا أن نعدد منهم : الأخ وجدي( السلبية والانقياد), الطفل حسن( فكرة الأمومة), الممثل وائل( مفهوم الخيانة), الطبيب أيمن( المبادئ)…
كلها شخصيات دخلت في الرواية, ساهمت في إيصال فكرة معينة أرادتها الكاتبة لتدعم البطلة, ثم غادرت بعد إتمام دورها, دون الاشتراك في مجريات الأحداث بشكل أساسي.
الصقل وإعادة البناء:
استراتيجية ترميمية للبناء الفني تعتمدها النظرية الذرائعية في السرديات حيث تقتفي أثر الثغرات في هذا البناء لترميمها, ليكون البناء متكاملًا جميلًا, ترى الذرائعية أن مواد الصقل هي ذاتها عناصر البناء الجمالي للنص, نستعرضها:
الأسلوب
الحوار
السرد
البيان
البديع
الصور والوصف
الأسلوب:
إن الأداة المستخدمة في هذه المرحلة ( الصقل و إعادة البناء) هي ما نطلق عليه الأسلوب, و إنّ مواد البناء التجميلية المستخدمة في هذه المرحلة هي السرد والوصف والحوار, يقوم الأسلوب بوصفه أداة صقالة بسد الثغرات في جدران البناء الفني بالحشوات التجميلية السابقة الذكر, ومن ثمّ إضافة الطلاء الملوّن (البيان والبلاغة) فوقها لإضفاء البهاء والبريق إلى البناء …
رجاحة الجمال في الأسلوب الرمزي العميق مبهرة, مجانبة واضحة للمباشرة, قامت الكاتبة بقذف جميع مفرداتها وعباراتها من خلف جدار التقريرية, ومن وراء جدار القص, لذلك جاءت الجمل بعمق أدبي متميّز, لا يتحمّل المباشرة, وقد امتاز أسلوبها بدراسة المفردات ودلالاتها و مدلولاتها و مفاهيمها الذرائعية بشكل عميق, يعدّ طريقة في التعبير السردي الحقيقي, فكل عبارة منها تعطي احتمالات لمعان مؤجلة بالرمز والمتابعة بالأثر التحليلي, وهذا النوع من الأسلوب يقرّ مقدرة التمكّن السردي للروائية عبير العطار, فالرواية ليست جنسًا إخباريًّا مباشرًا, بل هي عمل أدبي يحمل فكرًا و رؤية و قضية…