- محمد الغربي عمران كاتب وروائي يمني ..
رواية “… وثالثهما الفنجان” للمهندس محمود شامي تضيف الكثير من المعارف والقيم الإنسانية، تترك أثرا لا ينسى في ذهن المتلقي. الرواية صادرة عن دار النخبة، القاهرة 2020، لكاتب متمكن من أدواته السردية “محمود شامي” اريتري.. جيبوتي.. يماني. بل أكثر من ذلك. وذلك ما تدلل عليه شخصيات روايته ذات الأبعاد الإنسانية في فكرها وعلاقاتها.
الرواية حملت عدة مواضيع “ثيمات”، منها: العلاقة الحميمية، الفقد، العشق، الطغيان، التواشج الإنساني، الظلم، الشتات.. وغيرها من المضامين التي عالجها الكاتب في روايته. تلك الثيمات تصلح كل منها أن تكون محور رواية، وإن برز الشتات محتلا أكثر مساحة على صفحات هذا العمل الذي تجاوز”260”. مصورا ما يعيشه المجتمع الإرتيري في ظل هيمنة “الشعبية” على مقدراته .
الشعبية جبهة تهيمن على الشعب الإرتيري، تحمه بالحديد والنار. الرواية تصور لقارئها طغمة تدير وتتسلط ليس على أفراد الشعب فحسب بل ويتجاوز ذلك إلى اضطهاد عناصرها.
رواية تجاوزت الهم المحلي إلى أنظمة ديكتاتورية في السودان إلى أثيوبيا واليمن وجيبوتي، وإلى ماهو أبعد من ذلك من معاناة شعوب العالم الثالث.
الرواية حملت ثراء معرفي، جغرافي أنثر بلوجي، بيئي ، ديني، سياسي، أثني، تاريخي، وتراثي وسياسي واجتماعي… فلم يعد البحر الأحمر فاصل بين بر العفر وبر العرب، بتحول المسطح المائي إلى جسر للتواصل الإنساني في لحمة واحدة.
ورغم استعراض تلك المعارف المتعددة والدقيقة. إلا أن الكاتب أستطاع أن يفلت من الترهل، والتقريرية. فما أن تطأ شخصياته مدينة أو منطقة حتى يورد حولها معلومات دقيقة وواسعة، ما يقرب للقارئ أوضاع مجتمعات الر واية المتعددة، من أستراليا إلى جيبوتي فالسودان وإريتريا وأثيوبيا إلى الساحل الغربي للجزيرة العربية. حاشدا أسماء مناطق ومدن وأحياء ، وجزر ومعالم كثيرة، فمتى ما حت إحدى شخصيات العمل أو انتقلت إلى منطقة أو مدينة حتى تتدفق المعلومات حولها وبشكل يثير الإعجاب.
ولأن القضية الأساسية للرواية معالجة ذلك الشتات الناتج عن ظلم وتسلط أنظمة مستبدة على شعوبها، فقد تشابهت أوضاع تلك الشخصيات، ومحمودة وقعص واستير وبثينة و الحلبي وعشرات الأشخاص من أناث وذكور من مجتمعات مختلفة يفرون من أوطانهم إلى قارات متباعدة، لتتكون في بلاد المهجر اواصر إنسانية، لأناس جمعهم قمع وطغيان أنظمة دولهم، فلا يعود القارئ يفرق من هو إرتيري ولا الجيبوتي أو الصومالي من السوداني أو اليماني.. ولا بين المسلم والمسيحي أو الوثني. وكأن الظلم أذاب تلك الحدود السياسية والقبلية لندرك بأن الهم الإنساني واحد.
فضاء الرواية المكاني أمتد ليعبر المدن بل والدول حتى ضمت أرض الشتات ثلاث قارات من افريقيا إلى أسيا وأستراليا وكذلك أوربا. هربا من الملاحقات وسجون الأنظمة وقمعهم.
أما الفضاء الزماني فتوزع بما يناسب مناخ الرواية، حيث أتبع الكاتب إيقاع النقلات المباغتة، ما يوحي بالتشتت، وهو ما يدعم ذلك هم شخصيات العمل الموحي بالشتات ، إذ أن الكاتب سرد أحداث روايته من خلال راو مشارك “محمودة”. وهو الشخصية القطبية للرواية. ما يعطي إيحاء بأن محمودة ما هو إلا محمود المؤلف. وان صح ذلك يمكننا تجنيس هذا العمل بالرواية السيرية. كما هي “الخبز الحافي” للمغربي محمد شكري، لاتكائها على واقع الشخصية وما أدخل عليها من تخييل باتع ومدهش، ما جعل القارئ يدرك مقدار الصدق الفني فيها، بما حملته من أسماء تجاوزت الأربعين، بين شخصيات رئيسة وثانوية وعابرة. تباينت بين الشخصيات العادية والمركبة.
وظف الكاتب أغان عدة معروفة لإيصال ما يود قوله، كما طعم فصول الرواية الإحدى عشر فصلا بعدة قصائد شعرية للإيحاء بمكنون نفسه.
الشخصية الرئيسية عاشت حب عاصف، رباعي الأبعاد، بداية بعلاقته مع عائشة، ثم استير، مرورا بعدة فتيات أخريات، تلك العلاقات كرست الشتات العاطفي الذي أتسمت به حياة مجتمع الرواية.
الرواية حملت جوانب إنسانية مهمة. وما زادها روعة أسلوب الكاتب الذي أتسم بـ “السهل الممتنع”. وأجزم أن من يقرأ هذا العمل، بأنه سيجده ملهم ودافعا ليجرب كتابة الرواية لما أوحت من توظيف لافت لما يعيشه مجتمع الكاتب من عبث سياسي، فسلاسة السرد وتلك النقلات بين ماض وحاضر، وبين علاقة شخصية بأخرى، إلى علاقات متصالبة، وتلك الحكايات التي تواردت من حكاية اغتراب سنايات إلى عودتها، ثم مقهاها الذي تحول الى رمز للقاء الإنساني، إلى حكايات فناجينها، وذلك الشاب الذي قدم ووالدته لمعرفة ما تخبئ له الفناجين، ثم حكاية مريم، الى فنجان الراوي المقلوب “محمودة” ، ومن حكاية محمودة وعائشة إلى السمراء ميمي، وقصة حواء وابن خالها وخطيبها البحار سعيد ، والدكتور قبري وزجته، إذ تتناسل حكايات الأشخاص وتلك العلاقات المتداخلة. فقبري طبيب إرتيري يتزوج من أثيوبية اثناء اقامته و عمله في مستشفى طبي في بحر دار باثيوبيا ، وينضم سريا بجبهة التحرير الارترية في السيتينيات .. ثم يفر الي السودان من الاضطهاد الاثيوبي مثل الكثيرين من ابناء وطنه ، وتلتحق به زوجته وطفلتهما “استير” ليغيب بعد ذلك والديها الموت، وتتكفلها أسرة في مدينة بورتسودان.. وما أن تشب حتى تعود إلى اريتريا ثم تعود ثانية إلى السودان لتترهبن .. وهكذا بقية الشخصيات تتسم حياتهم بالقلق والتنقل والا وطن.. الممزوج بالحنين للاستقرار. لكنه الحاكم لهم بالمرصاد. سلاحه الملاحقة والسجون والقتل.
حكايات حاكها الكاتب في عناقيد حكائية مدهشة، حابكا حكايات أفراد يعيشون حالة من القلق والترقب والخوف. هي حالات إنسانية لا تعبر فقط عن الشعب الإرتيري، بل تنطبق على كل شعوب الأرض ممن يعيشون ويلات الظلم والاستبداد.
نهاية الرواية جاء صادما. فسنايت بعد خروجها من السجن وهي التي رفضت الفرار مع من فروا من الإضطهاد. يفرج عنها بعد سنوات، وقد تمكن منها داء السكري، ثم انسداد في شرايين قلبها المتعب، لتتسبب ندرة الأدوية بموتها.
الكاتب أراد أن يترك قارئه يقف على طريق مسدود، فسنايت رمز بها وبمقهاها وفناجينها إلى معان كثيرة، فهي رمز للنضال والانعتاق. ولذلك يتوقع المتلقي أن يسطع بريق الأمل من قلبها وفكرها. لكنها ارادة الكاتب حين يشير إلى أن الطريق مسدود ب”الشعبية”. كما هي الأنظمة الظالمة دوما توحي بقوة سيطرتها، بينما ضوء الفجر أقرب مما نتصور.
كلمات أنضدها على عجالة، حول رواية ممتعة ، أقرب إلى ملحمة تجسد معاناة شعب وأمله في حياة عادلة. رواية إنسانية بامتياز أتمنى أن تنال الانتشار، وأن تأخذ حقها في الترجمة، كما يتناولها الدارسون بالنقد، لما تحمل من قيم انسانية عظيمة.
ولأن الرواية فضاء الإنسانية صنع الكاتب من صفحات روايته جسور افتقدناها بين بر الدناكل وبر العرب الذي تعود جذورهم إلى ينابيع واحدة .
تمت …..
الاستاذ محمد الغربي عمران أديب روائي وقاص وسياسي يمني شغل منصب وكيل امانة العاصمة ، (ولد محمد الغربي في عام 1958). معروف برواياته المثيرة للجدل منها مصحف أحمر وحصن الزيدي ومملكة الجواري وبر الدناكل ولديه روايات وقصص عديدة .