- صالح حصن
1- “إيلاف قُريش” وطريق الحرير
قال الشاعر الجاهلي “مطرود بن كعب الخزاعي”:
يا أيها الرجل المُحَوِل رَحله.. هلا نَزِلت بآل عبد منافِ
الآخذون العهد من آفاقهم.. والراحلون برحلة الإيلافِ
كانت الجزيرة العربية تضطرم بصراعات عنيفة، فحرباً بين ” حِميَر اليمنية”و”الحبشة” وثانية، بين “الحيرة بالعراق”و” الفُرس” وثالثة بين”الغساسنة بالشام”و”بيزنطة” وأخرىات بين”الفرس” و”البيزنطيين”.
وُلِدَ سيد قُريش “هاشم بن عبد مناف” الجد الثاني للنبي “محمد” في مكة،سنة 150 قبل الهجرة وتوفى في غزة عن 25 سنة أثناء إحدى رحلاته التجارية. ورث عن أبيه واجب العناية بالكعبة و رعاية الحجيج فكان يقوم بإطعامهم وسقايتهم في مكة و منى وعرفة.
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾، كلمات نادى بها سيدنا إبراهيم ربه. “مكة” ليست مُنتِجة، فلا هي ذات مراعي ولا مزارع لكنها بفضل الله صارت مركزاً تنويرياً له قداسته، يئمه الحجاج وسوقاً تجارياً “كأمٍ للقُرى” ومنتدىً ثقافياً بسوق عكاظ. اشتغل أهلها بالتجارة بدلاً عن حياة البداوة والترحال وتميزوا فيها وكانت الأشهر الحرم مُقدّسة توارثاً تقام خلاها الأسواق تجنباً لتعرضها للنهب، ومع الزمن برز من القريشيون تجاراً كبارا غامروا بالإرتحال إلى ما هو أبعد من مجال الجزيرة الجغرافي بقوافل تجارية كبيرة وكان سيد قريش “هاشم بن عبد مناف ” ممن ارتادوا أسواق الشام في “غزة” و”بُصرى بسوريا”.
ولكل أمرئٍ من أمره ما تعودَ؛ ففي بلاد الروم تناقلت الأخبارعن كرم “هاشم” وأنه كان ينحر ويجزر ليطعم مرتادي السوق بدون مُقابل وذلك ما لم يعهده أهل الروم ما جعل قيصر الروم يستضيفه في مجلسه. وبعدما مثل أمامه قال له:” يا أيها الملك المُبجل، إن قومي تجار العرب، فإنْ رأيت أن تكتب لي كتاباً تؤمّن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم”. أثار طلب هاشم فضول القيصر فوافق وكتب له كتاباً بذلك عهداً شمل الشام وغسّان الخاضعتين للروم. صار هاشم يروّج لتطبيق هذا العهد وحض القبائل التي تمر بها طرق القوافل على أن تحمي القوافل وتوفر احتياجاتها بمقابل متفق عليه. وعلى قصر عمره يذكر أنه تزوج عديد النساء من قبائل كثيرة منهن الخزرجية و القضاعية والخزاعية و النجارية و القضاعية والخزاعية و الثقفية و ذلك لخلق صلات رحم ونسب معها وضمان أمن القوافل في بادية العرب.
وبعدما نجح عهد قُريش مع قيصر الروم وبتوالى أخوته على السيادة تمكنوا من أخذ عهداً من “النجاشي” بالحبشة و من الأكاسرة بالعراق و من حمير باليمن وصار لقريش رحلة في الشتاء إلى اليمن والعراق، ورحلة في الصيف إلى الشام. ومن ثم ثبتوا مواثيق على رؤساء القبائل التي على طرق القوافل بما يضمن سلامة القوافل من قُطّاع الطرق وقد التزمت بها القبائل لما وجدته فيها من مصالح تجارية. حديثاً سًمي الطريق الطويل الممتد من مكة إلى الصين “بطريق الحرير” وكانت إبل العرب من داست ترابه وهم من رسم مساره وجاب صحاريه.
ذلك لأن العرب كانوا قد اعتادوا الصحراء والترحال على الإبل وشغف بالمغامرة خاصةً بعد إيمانهم بالإسلام و تحملهم مسؤولية الدعوة لهداية الخلق. ففي عام 96 للهجرة دخلت سفارة “قُتيبة بن مسلم الباهلي” وقد وقف مُرابطاً على مشارف قصر امبراطور الصين ودخل سفراؤه على الإمبراطور فاستجاب لشروطه سلمياً.
و نلاحظ أن جميع الأقطار والمُدن الواقعة على طريق الحرير صارت مُسلمة و تفاعل أهلها مع اللغة العربية وأثروا ثقافتها وانصهروا مع أهلها.
هذا الإنجاز الحضاري والتاريخي البديع هو ما أثار شهوة دول الإستعمار القديم لحشر أنفها الآن في رسم المسار المناسب لها ولعملائها لمشروع الصين الخاص بإحياء طريق الحرير الذي تزمع توظيف تريليونات الدولارات لأجل تنفيذه لما يدره عليها كمُنتج ومصدّ لتوفير احتياجات الأسواق العالمية من البضائع.
وذلك ما يفسر بعضاً مما يجري على قطاع “غزة” و ساحات السياسة في بلداننا العربية وما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله.