- عبدالرحمن جماعة
بين امرئ القيس والشيخ الصديق بوعبعاب قواسم مشتركة، فكلاهما كان شيخاً.
امرؤ القيس كان شيخاً على قومه، ورث الملك عن أبيه، والشيخ الصديق بوعبعاب كان شيخاً بالمفهوم الديني!.
امرؤ القيس ترك الملك واشتغل بثأر أبيه، وبوعبعاب ترك قراءة القرآن وتوجه إلى الغناء، أي أن كلاً منهما بدَّل مجاله، وغيَّر اختصاصه، وتنكَّب الطريق الذي رُسم له!.
كلاهما أساء فهم معنى الحب، ففي معلقته ذكر امرؤ القيس عدداً من النساء، وتفاخر باللهو معهن، الأمر الذي يؤكد عدم تفريقه بين الحب كشعور إنساني وبين اللهو والمجون كشهوة حيوانية!.
وهذا بالضبط ما فعله الشيخ الصديق بوعبعاب في أغنيته المشهورة (فتحية)، والتي لم تقتصر على فتحية، بل استرسل في جرِّ سبحته التي نظمها من عدة محظيات، مما يعني أن كل من امرئ القيس وبوعبعاب كان يحتفي بالأيروتيك كأقصى غاية وأسمى هدف، ويعده من مآثره ومناقبه، إلا أنهما ألبساه ثوب العشق وهما أبعد الناس عنه!.
أُمُّ الحويرث، وأم الرباب، وعنيزة، وفاطمة، عند امرئ القيس، يقابلها: فتحية، وحليمة، ومريم، ومبروكة، وسعدة، عند بوعبعاب!.
التناص لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى التعبيرات؛ فمثلاً..
يقول امرؤ القيس:
أغركِ مني أن حبك قاتلي .. وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ
ويقول بوعبعاب:
من يومن خذته يا ريدي.. نا عقلي ما عدشي بيدي.. يمشي مطرح ما توديه.
فكلمة (يمشي مطرح ما توديه) هي نفسها (وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ)!.
فهل ثمة تناص أوضح وأدق من هذا؟!.
وكلاهما وقف على الأطلال: “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل” و”نريد ننشدك يا دار وين الغالي”!.
وكلاهما ادعى البكاء: “قفا نبكِ” و”عليكم مرايف بالدموع يشالي”!.
لكن أقوى ما يجمع الإثنين هو التصريح المخل، ليس بالحياء فحسب، وأنما مخلٌ من الناحية الفنية، فالتصريح بما فيه من فجاجة قد يُفقد الشعر جمالياته، ويذهب ببعض قوته، ويجعله أقرب إلى الكلام العادي!.
ضعف شعر امرؤ القيس مقارنة بشعراء الجاهلية كالنابغة وزهير وطرفة والأعشى ولبيد، وركاكة كلمات بوعبعاب مقارنة بأغاني عصره؛ هي قاسم آخر من القواسم المشتركة بين الشيخين!.
إلا أن ما يُغطي على ضعف شعر امرئ القيس هو قدمه وكثرة الدراسات حوله، وإذا أخذنا في الاعتبار النقل الشفهي لشعر امرئ القيس والذي استمر لقرابة أربعة قرون فإن لألسن الرواة دوراً كبيراً في تقويم الكثير من الهفوات، وتلافي العديد من الهنات، وإصلاح العيوب!.
أما الشيخ الصديق بوعبعاب فليس لديه ما يستر عيوب كلماته الرديئة سوى صوته الجميل، و(السمسمية) التي يتأبطها!.
لم يقف الأمر عند عدم التفريق بين الحب والأيروس، أو عند تعدد العشيقات، بل دسَّا في ثنايا ما يقولانه صوراً بورنوغرافية سمجة فجة صادمة للذوق الرفيع!.
يحاول بوعبعاب أن يُداري بعضاً من هذه الفجاجة بقوله: “لو ما فيه شوي حشم”، لكن ما بعدها ينفي وجود أي مقدار من هذا (الحشم) المزعوم!.
أما الملك الضليل فكان وجهه (أبرد من مؤخرة حوّات) فلم يترك على (زكورتها) ريشة!، وذلك حين قرن بين رضاع الأم لطفلها وبين ممارسة نزوته، ليصور لنا مشهداً أقل ما يُمكن وصفه به أنه مشهد مقزز، بل توغل كثيراً وتجاوز حد (القزازة) حين أحصاها ضمن بطولاته، وعدها من مناقبه، فليس أقل من الدناءة سوى التفاخر بها!.
عذر امرؤ القيس أنه صاحب ثأر يسعى إلى الملك، وعذر بوعبعاب أنه صاحب (كيف) يسعى إلى المتعة!.
فلا الأول طرح نفسه كشاعر، ولا الثاني أعلن أنه مطرب!.
ربما ثمة فارق بين الإثنين أن امرئ القيس ترك (الكيف) وتأبط السيف، بينما ظل بوعبعاب يُعاقر (الكيف) ولم ينتشل السيف… لأنه كفيف!.
وربما لو لم يُقتل أبوه لصنع امرؤ القيس (سمسمية)، ولرفع عقيرته بالغناء متنقلاً من حفلة إلى حفلة!.
قد لا تروق للبعض هذه المقارنة، وغالباً سيكون الاعتراض بسبب أنه لا تصح مقارنة شخصية تاريخية (عظيمة) بمغنٍ شعبي!.
لكن نبذة خاطفة عن شخص امرؤ القيس قد تُخفف من حدة هذا النقد، إن لم تُعطِ للمقارنة مشروعيها!.
فالسيد امرؤ القيس لم يؤسس مُلكاً، وإنما ورِثه، وبدل أن يُحافظ عليه استهلكه في طلب الثأر!.
وسواء مات مسموماً بسبب تحرشه بإبنة إمبراطور القسطنطنية، أو قتله الحارث بن عباد، أو قتله قومه، فإن كل الميتات كانت بسبب خلل قيمي وانحراف أخلاقي بمقاييس عصره وبيئته!.
إنَّ الذهنية العربية تقدس وتبجل القوة، وهذا ما يجعل هذه المقارنة تبدو غريبة وربما مجحفة لدى البعض باعتبارها محاولة فاشلة للمفاضلة بين (السيف الهندي) و(القُنّب الهندي)!.
ومع أن الأمر لم يكن بهذه الصورة، لأن الكلام زوايا، فيجدر بالقارئ أن ينظر من نفس الزاوية لكي يرى بعين الكاتب ويُدرك مراده، وإلا فإن ثمة زوايا أخرى كثيرة تجعل من المقارنة بين الشخصيتين ضرباً من ضروب العبث، ونوعاً من أنواع (الهروكة) الفكرية!.